بعد مرور شهرين على الانتفاضة الشعبية المصرية التي أرغمت مبارك على التنحي عن السلطة، أصبح الناشطون الديمقراطيون في موقع الدفاع عن أنفسهم بدلاً من الهجوم. ففي عطلة نهاية الأسبوع الماضي، أرغمت قوات الشرطة آلاف المتظاهرين السلميين على مغادرة ميدان التحرير، عندما هاجمتهم قبل بزوغ الفجر بالهراوات والعصي. وفي الوقت نفسه تم اعتقال مئات الناشطين خلال الشهرين الماضيين بواسطة أجهزة الأمن. كما واجه الدكتور محمد البرادعي، الحائز على جائزة نوبل والمرشح الرئاسي، مضايقات مستمرة عندما حاول التصويت في الاستفتاء الدستوري الأخير. والحقيقة أن كبح جماح الثورات يعد سمة عامة ومشتركة لعملية الانتقال الديمقراطي. ذلك أن للأفراد الذين جنوا فوائد كبيرة من قربهم وعلاقتهم بالنظام السياسي السابق، الكثير الذي يخسرونه فيما لو حدث تحول سياسي حقيقي، لذلك فإن لهم مصلحة في الدفع بالثورة المضادة. غير أن للإصلاح الديمقراطي أهمية بالغة لمصر فيما لو أرادت القطع مع ماضيها السياسي. ومن أجل تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي، يتعين على الإصلاحيين المصريين تنظيم صفوفهم بأسرع ما يمكن وعلى المدى البعيد وليس القريب. فالإصلاح السياسي يتطلب سنوات عديدة من الجهد في بناء مؤسسات مسؤولة تتسم بالشفافية والنيابية وقابلية المحاسبة على أدائها. هذا، ويلاحظ أن نمط عداء الديمقراطية الذي نشهده الآن يتمظهر على خلفية الإعداد لانتخابات برلمانية تقرر إجراؤها على عجل في شهر سبتمبر المقبل. ويخدم هذا الجدول الزمني المتسرع مصالح الأحزاب الراسخة، وكذلك "الإخوان المسلمون". ومن تقديرات المحللين والمراقبين أن هذا الجدول الزمني المتسرع للانتخابات البرلمانية، يعد خطوة لكبح "الثورة" المصرية وإدارتها على نحو لا تستطيع معه سوى إنجاز الحد الأدنى الممكن من التغيير السياسي. ويذكر أن مقاومة الإصلاح كانت سمة ملحوظة في دول عديدة، منها روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وإندونيسيا والفلبين وتشيلي والبرازيل ونيجيريا... وغيرها كثير. بل إن نحو 50 في المئة من الثورات في مختلف أنحاء العالم، قد شهدت تراجعاً أو انتكاسة خلال الأعوام الأولى لعملية الانتقال السياسي، وأن ثلث هذه الثورات تنتهي بعودة النظم الأوتوقراطية. وفي الحالة المصرية، يتوقع لمقاومة الإصلاح أن تأتي من الشبكات الداخلية التي طالما تحكمت بوصول المسؤولين إلى المواقع الحكومية العليا، وبالعقود ورؤوس الأموال. وعلى امتداد عقود طويلة ظل نظام المحسوبية هذا على ولائه للنظام السياسي الحاكم. وبالطبع فقد عززت هذه العلاقة ثقافة الفساد المصري المدمرة. وفي الوقت نفسه أسهم التعاضد بين السلطتين الاقتصادية والسياسية في التركيز الطاغي للثروة وعدم تناسب توزيعها بين المصريين. فمثلاً هناك نسبة 20 في المئة من السكان، وهي ترمز للفئة الاجتماعية العليا في مصر، تسيطر على نصف الإنفاق العام، بينما تعيش نسبة 43 في المئة من المصريين على دخل يقل عن دولارين يومياً. وبالنظر إلى التأييد الشعبي الواسع لمطالب الإصلاح، فمن المتوقع أن تتخذ مقاومته طرقاً غير مباشرة، مثل الطعن في استقامة وكفاءة الإصلاحيين، والتشكيك في قدرة الديمقراطية نفسها على النمو في التربة المصرية. وطالما يرجح أن يصحب السنوات الثلاث الأولى من عملية التحول الديمقراطي انكماش اقتصادي -وهو ما يحدث عادة في جميع عمليات التحول الديمقراطي- فإن ذلك سيوفر فرصة كبيرة للتشكيك في مصداقية وعود الديمقراطية الغربية نفسها. بيد أن للديمقراطية أهمية فائقة لتقدم مصر وازدهارها اقتصادياً واجتماعياً على حد سواء. ذلك أن ديمقراطيات العالم النامي عُرفت بقدرتها على تحقيق أسرع وأكثر استدامة للنمو الاقتصادي، والارتقاء بمستوى الخدمات الصحية والتعليمية، وتوسيع الفرص للمواطنين، فضلاً عن قدرة الديمقراطية على تحقيق مزيد من الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مقارنة بالنظم الشمولية الأوتوقراطية. وتمتاز الديمقراطيات على النظم الشمولية، ليس بمجرد الانتخابات فحسب، بل بكونها تبني مؤسسات الرقابة على السلطة التنفيذية ومحاسبتها. ومن أهم سمات الديمقراطيات الناجحة أنها توفر حرية الحصول على المعلومات. وفي ذلك ما يعزز الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، وقدرة هذه السلطة على تصحيح أخطائها، فضلاً عن رفع قدرتها على التفاعل والاستجابة لمطالب المواطنين. وللأسف فإن الديمقراطيات التي تعجز عن تحقيق هذه الإصلاحات الحيوية، تعجز كذلك عن جني الثمار الاقتصادية للتحول السياسي. وبذلك تظل هذه الديمقراطيات تراوح في عجزها وتبدو أكثر قرباً من النظام الشمولي. ولكي يحقق الإصلاحيون المصريون التغيير الذي يتطلعون إليه، عليهم بناء المؤسسات والهياكل المستدامة التي تركز اهتمامها على أهداف الإصلاح. وليس لهم كي يصلوا إلى هذا الهدف سوى الاعتماد على مكامن قوتهم وأعدادهم الضاربة، وشبكاتهم التي أثبتت مدى نفوذها أثناء الاحتجاجات التي أرغمت مبارك على التنحي. ويتعين أن يتركز الاهتمام على ربط شبكات الجماعات الإصلاحية هذه ببعضها من مختلف مشارب الشعب المصري من أجل بناء أمتن تحالف ممكن بين هذه الجماعات. جوزيف سيجل أستاذ الدراسات الإفريقية بجامعة "ذي ناشيونال دفينس" الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"