في مقال الأسبوع الماضي كتبت عن أهم درس في تصوري من الثورات العربية في هذا الزمان، ويتلخص في ابتعاد الحكومات العربية عن شماعة الأجندة الخارجية التي نعلق عليها فشلنا. وأكدتُ على أهمية العمل على وجود أجندة واضحة تعدها الحكومات العربية بما يتناسب مع طموحات الجيل الجديد من أبناء الأمة العربية. هذا الجيل الذي أحسنا تعليمه، لذلك فهو على إطلاع بمجريات الأمور من حوله محليا ًوعالمياً. وعرجت على أهمية أن تشمل تلك الأجندة الداخلية مشاريع واضحة تتلمس الحاجات التنموية للمجتمعات على إطارين، أحدهما قريب المدى، والآخر بعيد التخطيط، فهناك أمور عاجلة لابد من إصلاح الخلل فيها، وأخرى لا تصلح بسرعة لأن الزمن جزء من علاجها، ولكنها لن تعالج بنفسها، بل لابد من وجود الاستراتيجيات المحددة، التي من شأنها أن تحقق أحلام اليوم إلى حقائق المستقبل. ومن أبرز ما نحتاجه في المستقبل القريب تعريف حدود الحرية التي من حق الإنسان العربي أن يمارسها، ففي المجتمعات الغربية بدأت حركة التنوير والصحوة بتأطير أبعاد واضحة للحرية الفردية والمسؤولية المجتمعية، تلك الحرية قد لا تكون مناسبة لنا في الوقت الراهن لمتغيرات كثيرة. ولكن لابد من التخطيط الجيد لها كي يعرف الإنسان العربي حقوقه وواجباته، ومن دون تعريف للحرية تتلخبط المعاني والتصرفات، وينتج عن ذلك الخلط عجيناً لا يصلح أبداً لطبخة عربية أصيلة، لقد تعلق العرب فترة من الزمن بالاشتراكية، وأضيفت هذه الكلمة إلى أسماء عدد ليس بالبسيط من الدول العربية، وكانت الشعارات الجوفاء من حق الفقراء المضطهدين، ولكن اشتراكية العرب قادتنا إلى نوع جديد من الدكتاتورية الفكرية والتطبيقية. ومن جانب آخر عزف بعض العرب على نغمة الرأسمالية والديمقراطية والانتخابات. لكن اللحن العربي عندما مزج بالفكر الغربي نشأ عنه إيقاع جديد من الديكتاتورية العربية التي تخلد الرئيس عبر صندوق الانتخاب، بل تضمن لذريته من بعده الفوز في أقرب انتخابات شكلية تعقد بعد موت والده، وهل نتوقع من العربي عندما ينسلخ من جلدته إلا مشية السلحفاء في ثوب زرافة. الوقت جد مناسب للبحث في جذور التخبط، الذي مرت به الأمة العربية ردحاً من الزمن، وهو دور لابد أن يلعبه المفكرون والمنظرون في هذه الأمة، كي لا تصبح الأفكار جرياً وراء مطالب الشارع، فالخطر كل الخطر عندما يتحول الشارع إلى مشرع، ويتكلم العقل الجمعي غير الواعي بمستقبل أمة تتخبط يمنة ويسرة، لكنها لا تبحث عن الجذور، بل تتطلع إلى زراعة الزهور الاصطناعية كي تحل الأزمة العربية. إنها مسؤولية العلماء والمفكرين كي يقفوا صفاً واحداً ليس ضد التيار، ولكن لا ينبغي لهم الغوص في شلاله كي لا يغرقهم طوفانه، الدول العربية مرة أخرى بحاجة لكم أيها العقلاء، كي تقولوا لنا ما هي الأجندة الداخلية التي ينبغي أن نسير عليها كي نصل إلى بر الأمان في طوفان التغيير، إنْ لم نستعد له اليوم. هذه الأجندة ينبغي أن تكون معلنة منشورة مصاغة بطريقة قابلة للتنفيذ عبر زمن محدد، لأن العربي اليوم يكذب الشعارات الطنانة الرنانة، التي قُذفت في مزبلة التاريخ، فهو بحاجة إلى كلام يتحرك على الأرض، وفكر يراه في مشاريع تحقق له طموحاته، وتتناسب مع أصالته، وليس التنظير من أجل التفكير الفلسفي المجرد.