كان مقتل النظام السابق الوقوف في المكان داخلياً وخارجياً، مما أدى إلى التفكك والفساد وبيع مصر أجزاء، أرضاً وشركات وبنوكاً ومصانع، القطاع العام الذي كونه جيل الخمسينيات والستينيات بشد الأحزمة على البطون. فما اقتصده هذا الجيل من قوته لتوفير حاجات الشعب نهبه الجيل الثاني، مجموعة من الأفراد، تملك السلطة والثروة والأمن. صحيح أن الانفراجة مع تركيا قد بدأت بعد الحضور الطاغي لتركيا في القضية الفلسطينية وفي الوطن العربي لتعادل توجهها الغربي التقليدي مع توجهها الشرقي الجديد. ومع ذلك نفس التباطؤ الذي يتم في السياسة الداخلية ينعكس أيضاً في السياسة الخارجية. ومصر- بتاريخها وجغرافيتها وحجمها قيادةً وأخاً أكبر ومركزاً لتجمع إقليمي عربي وإلا تقطعت الأطراف وانجذبت نحو مراكز أخرى كما حدث للدولة العثمانية بخسارة آسيا الوسطى التي انجذبت نحو روسيا، والبلقان الذي انجذب نحو أوروبا- ستتفتت أيضاً. والثورة طاقة وحركة وتغيير وانطلاق لتحقيق أهدافها. هي انتفاضة روح تؤدي إلى تحرك جسد بعد أن أصبح جثة هامدة أصابه التحلل. هي عودة إلى الطبيعة وإلى مسار التاريخ. تخشى على نفسها من التوقف والتسرب والضياع. فتستمر في تجميع الملايين في ميدان التحرير لتذكير القادة بأهداف الثورة، وبدفع العربة المتوقفة إلى الأمام لعلها تسير من جديد بدفع ذاتي. صحيح أن الداخل يأتي قبل الخارج إذ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وتلك عبقريتها، ولكن إذا طال الداخل توقف. وظل الخارج كما هو لم يتغير. وعاد النظام القديم في روحه بالرغم من سقوط رأسه. فالروح مازالت تنبض في القلب. لقد ولّدت شرارة تونس الثورة في مصر. وامتدت روح الثورة إلى اليمن وليبيا، كل بطريقته. واندلعت المظاهرات في الجزائر والمغرب وموريتانيا في المغرب وفي الأردن وسوريا والعراق في المشرق لتبين وحدة الوطن العربي. بل غطت الثورة على الحرب الأهلية في الصومال، والحرب كما يقال ضد "القاعدة" في الجزيرة العربية والمغرب العربي. كما غطت على مأساة انفصال جنوب السودان واحتمال أن يحدث ما يشبهه في دارفور. فتتفتت أكبر دولة عربية أفريقية تربط العرب بأفريقيا من خلال وادي النيل. لقد تحققت بعض المطالب الثورية مثل إسقاط رأس النظام، والقبض على بعض رموز الفساد من أجل تقديمهم للمحاكمة، وتغيير بعض القيادات الإعلامية، وإلغاء الحرس الجامعي، وإلغاء مجلسي الشعب والشورى وإبطال انتخابهما تنفيذاً لحكم القضاء، وتعديل الدستور باستفتاء شعبي عام. ومازال قطار الثورة بطيئاً لم يصل بعد إلى حل الحزب الحاكم، والقبض على باقي رموز الفساد من أجل تقديمهم للمحاكمة، وإلغاء قانون الطوارئ، والمحاكم العسكرية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، واسترداد ثروات مصر المهربة إلى الخارج، وتطبيق حكم القضاء بتطبيق الحد الأدنى للأجور، وصياغة مشروع قومي لبناء العشوائيات بالأموال المنهوبة، فقد صدر قانون الإصلاح الزراعي ضد الإقطاع بعد ستة أسابيع من بداية ثورة يوليو 1952، استمرار تصدير الغاز إلى إسرائيل بالرغم من حكم القضاء نظراً لانخفاض الأسعار عن المعدل العالمي، والاستقلال عن الولايات المتحدة بالرغم من إعجابها بالثورة المصرية ونيلها الاحترام، واعتبارها نموذجاً للتعليم في المدارس الأميركية. والأهم من ذلك كله هو الغياب الإقليمي لسياسة مصر الخارجية، واستمرار العزلة عن الوطن العربي. فليبيا شقيقة مصر. وثورة الفاتح 1969 وليدة ثورة يوليو. وقائدها الابن البار للقومية العربية. ضربته الثورة المضادة في السبعينيات وقذفته بالقنابل. وتحولت إلى أفريقيا، وأصبح ملك ملوكها لترك مصر له. والآن قامت الثورة الشعبية لتصحيح ثورة الفاتح 1969 كما قامت ثورة 25 يناير في مصر لتصحيح ثورة يوليو 1952. أقصى ما فعلناه هو تحركنا من خلال الجامعة العربية لمطالبة مجلس الأمن الدولي لإعطاء غطاء جوي حماية للمدنيين في ليبيا، وطال الأمر، وتحولت الثورة إلى حرب أهلية. واستعان النظام القديم بالمرتزقة الأفارقة، ولديه من الأسلحة الثقيلة ما ليس لدى الثوار، وخرج الثوار من بنغازي إلى طرابلس. وأوقفوا في منتصف الطريق. وتدخلت القوات الأميركية ثم انسحبت، وتدخلت قوات حلف شمال الأطلنطي ثم توقفت، وتقهقر الثوار. وتدخلت دول البحر الأبيض المتوسط، إيطاليا، واليونان للمصالحة بين الثوار والنظام. ووضعت تركيا خارطة طريق ترضي الطرفين. فأين مصر؟ أين الأخ الأكبر؟ مليون ونصف المليون مصري في ليبيا، ولا فرق بين بنغازي والإسكندرية؟ أين ثورة 25 يناير في مساندة الثورة الليبية التي ينقصها سلاح المدرعات، ولمصر حدود مشتركة مع ليبيا؟ وكما ساندت ثورة يوليو 1952 ثورة الفاتح 1969 لماذا لا تساند ثورة 25 يناير 2011 ثورة 17 فبراير 2011 والفارق بينهما شهر واحد؟ لماذا تترك الشقيقة الكبرى الشقيقة الصغرى؟ واندلعت ثورة اليمن بنفس الطريقة السلمية مثل الثورة المصرية. وطالب المدة شهرين. واليمن جزء من مصر. والثورة اليمنية في 1964 امتداد لثورة يوليو 1952. دافعت عنها ضد الثورة المضادة. بل أرسلت جزءاً من جيشها نحو سبعين ألفاً دفاعاً عن الثورة ضد فلول النظام اليمني. وفي رأي بعض العسكريين قد تكون الحملة المصرية في اليمن أحد أسباب هزيمة الجيش المصري في 1967 في مواجهة الجيش الإسرائيلي. والآن أين مصر؟ واليمن جزء من أمنها القومي في جنوب البحر الأحمر. أدت دورها أثناء حرب أكتوبر بغلقها لخليج عدن حماية لمصر من مرور الأسطول الإسرائيلي. إن ثورة يناير في مصر لا تنشغل عن الثورات العربية الأخرى على حدودها وفي محيط أمنها القومي، الثورة لا تنشغل عن الثورة بل تزيدها اشتعالاً. وقد اندلعت الثورة الروسية في 1917 في نفس الوقت الذي كانت تدافع فيه عن أراضيها ضد العدوان النازي. والسودان كان جزءاً من مصر منذ محمد علي والخديوي إسماعيل حتى فاروق ملك مصر والسودان. واستقل بفضل الثورة المصرية. وتوالت عليه الانقلابات العسكرية والدينية حتى فرط في وحدته باسم تطبيق الشريعة الإسلامية. فانفصل الجنوب. ومازال يهدد دارفور خطر الانفصال. وتركنا الشمال. ومن السودان تمر مياه النيل. وهو الطريق إلى منابعه. فمتى تتحرك مصر إقليمياً؟ متى تدافع عن حدودها الإقليمية في ليبيا والسودان؟ لماذا تفرط في أمنها القومي في اليمن، في البحر الأحمر، وفي الشمال في سوريا والأردن ولبنان والعراق عبر سيناء؟ هل مازال محور الاعتدال في مواجهة محور الصمود هو العقلية المسيطرة بعد ثورة 25 يناير؟ أين مظاهرات الثورة المصرية المؤيدة للثورة العربية؟ ألم تعد القاهرة قلب العروبة النابض؟ ألم تسلح مصر الثورة الجزائرية فكان جزاؤها العدوان الثلاثي عليها في 1956؟ ألم تقف بجانب سوريا ضد تهديد إسرائيل لها فكان جزاؤها العدوان عليها وعلى سوريا والأردن في 1967؟ متى تستعيد مصر خيالها العربي؟ إن الجيل القديم الذي عاصر بدايات ثورات الضباط الأحرار في أوائل عمره، ويعاصر الآن بدايات ثورات الشعوب الحرة في آخر عمره ليحن إلى صوت العرب، صوت أحمد سعيد، "أمجاد يا عرب أمجاد".