في عام 1979 حدث تسرب نووي إشعاعي خطير من مفاعل أميركي في بنسلفانيا. ورغم التقدم في التقنية النووية الأميركية فإن الحادث ألحق أضراراً كبيرة قبل أن تتمكن السلطات المعنية من احتوائه. وفي عام 1986 وقعت الكارثة الكبرى في تشيرنوبل والتي يصادف هذا الشهر أبريل ذكراها الخامسة والعشرين. وقد أدت تلك الكارثة الى تلوث نووي خطير في كل أنحاء أوروبا وجنوباً حتى تركيا. وكانت أكثر الدول المتضررة هي دول وسط أوروبا. وهذا العام وقعت كارثة فوكوشيما في اليابان إثر الزلزال العنيف الذي ضرب شمال شرق البلاد، وما أسفر عنه من موجات مدّ عالية - تسونامي. ولا تزال المفاعيل الخطيرة للكارثة تتواصل... ولا يزال احتواء الخطر النووي يستعصي على العلماء اليابانيين والذين استعانوا بأقرانهم من العلماء الأميركيين. وعندما أقامت اليابان مفاعلاتها النووية كانت تعرف أنها تقع على خط الزلازل. ولذلك راعت في عملية بناء تلك المفاعلات احتمالات التعرض للخطر الزلزالي، ومع ذلك وقعت الكارثة. لقد حملت كارثة فوكوشيما العديد من الدول التي تعتمد على المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة الكهربائية، إلى إعادة النظر في مبدأ الاعتماد على هذه المفاعل، بل إن بعضها أوقف مشروعات لبناء مفاعلات جديدة... وذهب بعضها الآخر إلى تجميد العمل في المفاعلات القائمة. ففي ألمانيا مثلاً التي لم تشهد أي تسرب نووي في مفاعلاتها النووية، ولم تتعرض بعد إلى أي خطأ تقني يثير القلق، قررت في ضوء ما حدث في فوكوشيما توقيف مفاعلاتها النووية السبعة. وهناك مطالب ملحة بعدم إعادة تشغيلها رغم الحاجة الاقتصادية إلى الطاقة التي تستولد منها. وحتى الدول التي تخطط للاعتماد على المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة مثل الصين التي تشهد فورة اقتصادية – صناعية متنامية، تعترف الآن بأن إجراءات السلامة المضاعفة التي فرضتها وقائع ما بعد فوكوشيما سوف تؤدي إلى رفع كلفة إنتاج الطاقة النووية بنسبة عالية. ويوجد في الصين 77 مفاعلاً نووياً قيد الإنشاء، منتشرة في مختلف أنحاء البلاد. وقد صممت لتخفيف نسبة اعتماد الصين على الفحم الحجري والنفط في تشغيل مصانعها، وبالتالي لتخفيض نسبة انبعاث ثاني أوكسيد الكربون الذي يؤدي بدوره إلى الاحتباس الحراري. أما الولايات المتحدة، وهي الدولة الأولى في إنتاج الطاقة النووية في العالم، فقد قررت إعادة النظر في سياستها في ضوء الدروس والعبر التي استخلصتها من تجربة بنسلفانيا الذاتية، ومن تجربتي فوكوشيما وتشيرنوبل. وكان الكونجرس الأميركي قد قرر في عام 2007 تقديم قروض لتمويل بناء 28 محطة نووية جديدة. وفي عام 2010 أضاف الرئيس الأميركي إلى هذا التعهد شروطاً تتعلق بإجراءات إضافية للسلامة تزيد من كلفة البناء.. وتالياً من كلفة أنتاج الطاقة. واستجابة لهذه الشروط يجري العمل في بناء مفاعلين فقط. وتدرس الإدارة الأميركية طلبات استمرار عمل 20 مفاعلاً في ضوء تطويرها بما يتوافق مع الإجراءات الجديدة للسلامة العامة. ومن شأن هذه الإجراءات الإضافية في بناء المفاعلات النووية أن ترفع من كلفة الإنتاج من دون أن تلغي خطر التشغيل. ولا شك في أن كلاً من اليابان والصين وألمانيا والولايات المتحدة هي في إطار الصناعة النووية أكثر تقدماً. وإذا كانت هذه الدول قد اضطرت تحت ضغط الفواجع التي وقعت من تشيرنوبل إلى فوكوشيما أن تعيد النظر في سياستها النووية، فهل الدولة النامية أكثر ثقة بقدرتها العلمية لضمان سلامة مفاعلاتها؟... وإذا كانت الولايات المتحدة التي تقع الى الطرف الآخر من المحيط الباسيفيكي قد أصابها القلق الجدي من احتمال وصول أمواج المحيط الملوثة بالإشعاع الى شواطئها، أو من وصول الهواء المشبع بالإشعاع إلى أجوائها، قادماً من اليابان، أفلا يحق لدول أخرى أن تقلق على أمنها وسلامتها من المفاعلات النووية القريبة منها، خاصة إذا كانت هذه المفاعلات قائمة أصلاً على خط الزلازل؟ لقد سبق لليونان مثلاً، والتي تقع هي أيضاً على خط الزلازل أن اتخذت موقفاً مبدئياً بعدم إقامة أي مفاعل نووي رغم أنها لا تنتج نفطاً ولا غازاً. بل إنها تستورد كل حاجتها من الطاقة من الخارج؛ وفي الأسبوع الماضي وقعت هزة أرضية في إحدى كبرى جزرها –كريت – بدرجة 6.2 على مقياس ريختر. فماذا لو كان في جزيرة كريت مفاعل نووي؟ وتلتزم بهذا الموقف المبدأي أيضاً دول أوروبية عديدة أخرى مثل أيرلندا والنمسا والدانمارك والبرتغال، وتستورد كل هذه الدول حاجتها من الطاقة من الخارج. وحدها روسيا المنتجة للنفط والغاز، تتمسك بسياسة بناء المفاعلات النووية وذلك لسببين اقتصاديين على ما يبدو: السبب الأول هو توفير إنتاجها من النفط والغاز لتصديره إلى الخارج، بدلاً من استهلاكه في الداخل، وهو يدر عليها عائدات ضخمة ويعزز الحاجة إليها واسترضائها سياسياً. أما السبب الثاني فهو حصولها على تعهدات لبناء مفاعلات نووية في الدول الأخرى كما فعلت في إيران مثلاً... وكما ستفعل في تركيا أيضاً. وهي تبيع تقنيتها النووية حتى إلى الصين. وفي ذلك تتنافس مع فرنسا التي تعتبر نفسها في مأمن من الهزات الأرضية. مع ذلك، فإن كل المفاعلات النووية المنتشرة في العالم، والتي يشكل انفجار أي منها خطراً على الإنسانية كلها، لا يزيد إنتاج مجموعها من الطاقة على 14 بالمائة فقط من الاستهلاك العالم . فهل يبرر ذلك كل هذه المخاطر؟ في الشرق الأوسط خطر داهم يتجسد في المفاعل النووي الاسرائيلي "ديمونا" في صحراء النقب. وهو خطر يجري التعتيم عليه باستمرار. مع أنه كغيره من المفاعلات النووية يشكل مشروع كارثة يمكن أن تقع في أي وقت. لقد عرف العالم مؤخراً ثلاث كوارث كبيرة: انفجار البركان في أيسلندا والذي عطل الملاحة الجوية في أوروبا. وانفجار بئر النفط في خليج المكسيك في الولايات المتحدة والذي ألحق بالبيئة البحرية الأميركية أفدح الأضرار. ثم انفجار المفاعل النووي الياباني في فوكوشيما، والذي لا تزال مفاعيله تتوالى يوماً بعد يوم. من هنا مشروعية مبدأ تجريد الشرق الأوسط من مثل هذه الكوارث وأخطرها النووي.