قبل أن تبدأ الثورات والانتفاضات في دول عربية عدة، كانت الأحداث الجسام التي مرت بها منطقتنا على مدار السنوات الأخيرة قد عودتنا أن الرأي العام العربي يقتصر دوره على أن يكون مجرد "رد فعل" على وقوع تلك الأحدث، وليس جزءاً من صناعتها، أو رقماً في المحاولات الرامية إلى الحيلولة دون قيامها، إذا كان فيها ما يضر بمصلحة أي طرف عربي، أو بمصالح العرب أجمعين. فقبل الاعتداءات الإسرائيلية والأميركية المتكررة على الدول العربية كان الشارع العربي لا يبرح حالته المعهودة، وهي انتظار مرور أول صاروخ وانطلاق أول طائرة إسرائيلية أو أميركية أو بريطانية باتجاه الأهداف المحددة للضرب، لتندلع التظاهرات وتنظم المسيرات، التي تطلق شعارات صارخة من قبيل "الموت لأميركا"، ثم يكيل بعض منظمي هذه الأشكال الاحتجاجية الاتهامات للأنظمة العربية بالتقاعس عن نصرة "إخوة الدم والتراب"، ويدعون إلى تنظيم قوافل طبية لتضميد جراح المصابين المثخنة، أو جمع التبرعات لشراء أغذية تسد بعض رمق الجوعي تحت القصف. وتدريجياً، وأمام مضي العمليات العسكرية قدماً وظهور بوادر تعب على الحناجر التي صرخت كثيراً في التظاهرات وتسرب اليأس إلى نفوس الرموز السياسية المعارضة أو المتعاطفة مع الشعب العربي هذا أو ذاك، يعود الرأي العام العربي إلى مقاعد المتفرجين، ويتابع سير المعارك وكأنها مباراة لكرة القدم، أو حرب أهلية في بوروندي أو سريلانكا، خاصة بعد أن تبدأ "الآلة الإعلامية" الرسمية في تهدئة النفوس، وتحييد اللهجة في نشرات الأخبار والتعليقات، وتهيئة الجميع للأمر الواقع. وهنا كانت تظهر الآفة التي تصيب الرأي العام العربي في مقتل، وهي عدم قدرته على تغيير أوضاع داخلية مستبدة وقاهرة، وعجزه عن الانتصار لنفسه في قضاياه المحلية الملحة، أو إبرامه عقداَ اجتماعياً مع السلطة يجبر الأخيرة على احترامه، والتعامل معه على أنه رقيب وحسيب، وأنه بداية السياسة ومنتهاها، وأن من يجلسون في المقاعد الأمامية للإدارة ليسوا سوى موظفين يلبون رغبات الناس، الذين اختاروهم، أو على الأقل رضوا بوجودهم في مناصبهم. ورأي عام بهذا الشكل كان لا يمكنه أبداً أن يمتلك حساسية التحرك السريع حيال التهديدات الخارجية، أو يجعل صناع القرار في أميركا وبريطانيا يضعونه في اعتبارهم، وهم يدبرون للحرب ضد العراق أو غيره، لأنه فشل في أن يجعل صناع القرار في البلدان العربية نفسها يضعونه في حسبانهم وهم يرسمون سياساتهم للتعامل مع أي أزمة يمر بها العالم العربي. ومن ثم ظل الرأي العام العربي عاجزاً على أن يشكل رقماً في معادلات السياسة الخارجية، وهي مسألة فطن لها العقلاء من المثقفين العرب حين أكدوا أن غياب الديمقراطية، الذي يعني هنا تجاهل السلطة لمواقف الجماهير، هي آفة العرب الأولى، ونقطة ضعفهم الرئيسية في الصراع ضد إسرائيل. وهذا كان يستوجب في مجمله ضرورة أن ينتصر الرأي العام العربي، في كل دولة على حدة، لقضاياه الداخلية، قبل أن يطل برأسه إلى خارج حدود بلاده محاولًا أن يدفع عن العرب ضرراً أو يجلب لهم منفعة. لكن القمع والإكراه الذي تمارسه بعض السلطات العربية كان يحول دون تحقيق هذه الغاية، وكان يؤدي إلى تكريس استكانة الأفراد، وانسحابهم في أنفسهم، خانعين خاضعين، ومثل هذا الوضع لم يكن من الممكن أن يجلب لهم احترام العالم وتقديره، مهما بلغت بهم المسكنة والاستعطاف. ولا يعني هذا، بأي حال من الأحوال أن يرجئ الرأي العام العربي، في أي من الدول التي لم تقطع شوطا بالغاً على طريق التغيير الشامل، صنع مواقف من القضايا الخارجية حتى يحسم مشاكله الداخلية، فهذا أمر غير واقعي، ولكن المطلوب هو ألا يفرغ الشارع العربي كل مكبوت طاقته حيال ما يلم بالعرب من مآس خارجية، ثم ينتظر خالي الوفاض، حتى تسوق الأحداث كارثة جديدة كي يستيقظ هذا الشارع من غفوته، بل يجب أن يظل طوال الوقت يقظا إزاء قضايا الديمقراطية والتنمية، فإذا حلت مشكلة خارجية تفاعل معها على الفور، دون أن ينسى الارتباط العضوي بين الداخل والخارج، ودون أن يسمح لأحد أن يمارس عليه وعياً زائفاً بأن الأولى هو مواجهة عدو يتربص بنا وأنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". والغريب في مثل هذه الحال أن السلطات الحاكمة في العديد من الدول العربية يروق لها هذا الأمر، فتترك الجماهير تصيح وتصرخ احتجاجاً على نتنياهو وأوباما حتى تفرغ طاقتها الغضبية تماماً، فإذا تبلور لديها وعي أثناء الحشد والصراخ بأن ما هي فيه هو نتيجة طبيعية لوجود أنظمة غير ديمقراطية واستشراء الفساد وإهدار إمكانات الدول، تدخلت على الفور اليد الباطشة، لتفرق التظاهرات وتفض الاحتجاجات وتسوق رموز الرأي العام إلى السجون، ولا تأخذها بهم رأفة أبداً. في ديسمبر بدأت هذه المعادلة تتغير حين اندلعت ثورة تونس وأطاحت بنظام بن علي، وتلتها الثورة المصرية التي حولت مبارك من القصر إلى السجن، ثم الثورات الليبية واليمنية والسورية، والحبل على الجرار. ومع هذا التغير أعتقد أن الرأي العام العربي بات يمتلك قراره، ويسترد ثقته في نفسه، وهو يسير بخطى واثقة نحو بناء الديمقراطية والعدل الاجتماعي. وحين يكتمل التغيير، وتتمكن الشعوب من رقبة القرار، سيجد العالم نفسه مجبراً على الإنصات لصوت الجماهير العربية الهادرة، واحترام ما تقول، والنزول على ما ترغب، وهو من ثمار التحول الكبير الذي تشهده البلدان العربية. ومن أراد أن يتأكد مما أقول فليستمع إلى أغنية الطلاب الأميركيين في القاهرة وهم يغنون باللغة العربية على مسرج الجامعة الأميركية أغنية: "كل شارع في بلادي بالحرية بينادي".