كثيرة هي التحديات التي واجهت إسرائيل منذ تأسيسها قبل 63 عاماً. غير أنه لم يكن أي من هذه التحديات بحجم التغيير الذي يحدث في مصر الآن على الأقل من زاوية اهتمامها بتفاصيله وخوفها من تداعياته. فالسؤال عما يمكن أن يكون في جعبة "المصريين الجدد" على المستوى الإقليمي حاضر في إسرائيل الآن طول الوقت صراحة وضمنا. ورغم أن ثورة 25 يناير ليست الأولى في المنطقة العربية، بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، فلم تكن أي من الثورات التي حدثت في مرحلة التحولات السريعة خلال الربع الثالث من القرن الماضي مصدر تهديد جوهري للدولة العبرية، رغم أنها كانت طرية العود. لقد فاجأتها ثورة يوليو 1952 بعد أربع سنوات فقط على قيامها. غير أنه لم يكن لديها ما يمكن أن تخسره جراء التغيير في مصر. ورغم أن السياسة المصرية تجاهها صارت أكثر جذرية بعد ثورة 1952، فقد نجحت في استثمار أخطاء النظام الذي أقامته هذه الثورة وكسبت تعاطفاً دولياً وربحت حرباً نقلت الصراع العربي الإسرائيلي إلى حال مختلفة تماماً بعد أن صارت إزالة آثار العدوان هي سقف طموح العرب. والجديد أن لدى إسرائيل الآن علاقات سلمية رسمية مع مصر. وهي تعتبر هذه العلاقات بمثابة "الجائزة الكبرى" التي ربحتها منذ أن حصلت على اعتراف دولي بكيانها الذي أُقيم على أرض فلسطينية. ومنذ ذلك الوقت، لم تواجه المعاهدة التي أقيمت على أساسها هذه العلاقات تحديات تُذكر. ورغم أنه لم تصدر عن أية جهة مصرية رسمية أو غير رسمية بعد ثورة 25 يناير إشارة تدل على وجود اتجاه لإعادة النظر في معاهدة السلام، بل كانت هناك إشارات عدة في الاتجاه المعاكس، لم تكف أوساط إسرائيلية، سياسية وإعلامية، عن إبداء قلقها الآخذ في الازدياد. وقد بلغ هذا القلق ذروة جديدة في الأسبوع الماضي عندما فوجئ الإسرائيليون بإعلان أحد أبرز المرشحين لرئاسة مصر أنه لم يعد ممكناً أن تستمر إسرائيل في احتقار المفاوضات السلمية والاعتداء على الشعب الفلسطيني. وكان أكثر ما أثار انزعاجاً في إسرائيل هو حديثه عن ضرورة تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، رداً على أي عدوان إسرائيلي ضد قطاع غزة. لم تكن المفاجأة في هذا الموقف فقط، بل في أنه صدر عن مرشح رئاسي معروف باعتداله وميله إلى الوسطية، وهو الدكتور محمد البرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية والمصنّف ليبرالياً والبعيد عن الأجواء الإسلامية الأصولية والقومية العربية "المتشددة". فاجأ البرادعي إسرائيل بموقف قد يكون أقوى مما توقعت أن يصدر عن مرشح رئاسي آخر هو عمرو موسى الذي كانت أوساط عدة فيها أبدت قلقها من إمكان دخوله القصر الجمهوري في مصر. لكن المهم هنا هو الانزعاج من موقف لم يقترب من قضية معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. أما الأكثر أهمية فهو تحميل هذا الموقف ما لا يمكن أن يحتمله وربطه تعسفياً بقضية المعاهدة. وجاء هذا الربط عبر اعتبار موقف البرادعي ضد رفض إسرائيل السلام مع الفلسطينيين مؤشراً على عدم دقة التقارير الاستخباراتية التي ذهبت إلى أن المتنافسين على رئاسة مصر يقدرون أهمية معاهدة 1979، في إشارة إلى تقرير "افيف كوخافي" رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية بهذا المعنى. فكأن رفض سياسة عدوانية تنتهجها إسرائيل يساوي عدم تقدير أهمية هذه المعاهدة! والحال أن كلام البرادعي لا ينطوي على أي تلميح يخص معاهدة السلام، بل يتضمن تصريحاً واضحاً بأن إفساد إسرائيل الجهود السلمية لا يمكن أن يستمر بلا نهاية. وهذا موقف مع السلام، وليس ضده بأية حال. لكنه ليس السلام الذي تقصده إسرائيل وتصر عليه وتفسر معاهدة 1979 في ضوئه وتنظر إلى أي موقف قوي يعبر عن رفض سياستها كما لو أنه ضد هذه المعاهدة. ولا يعني ذلك إلا أن إسرائيل تعتبرها معاهدة إذعان من النوع الذي يضطر فيه طرف إلى قبول ما يفرضه الطرف الآخر عليه. وقد شجعتها سياسة النظام السابق، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، على أن تتمادى في هذه النظرة التي تفرّغ أية معاهدة سلمية من محتواها، وخصوصاً حين تكون مرجعية هذه المعاهدة اتفاقاً إطارياً قام على أساس أن السلام في الشرق الأوسط ينبغي أن يكون شاملاً وعادلاً، وهو اتفاق كامب ديفيد. فقد تضمن ذلك الاتفاق، الموقع في سبتمبر 1978، شقين هما إطار سلام الشرق الأوسط، وإطار لمعاهدة سلام بين مصر وإسرائيل. وقد تم تفعيل هذا الإطار الثاني من خلال معاهدة السلام الموقعة في مارس 1979، بينما لا يزال الإطار الأول شاهداً على أن إسرائيل هي التي تسيء إلى هذه المعاهدة منذ أن أصرت على تفريغ صيغة الحكم الذاتي الفلسطيني التي سعت مصر إلى بلورتها استناداً عليه بين 1979 و 1981 من أي محتوى سلمي حقيقي. كما فعلت الشيء نفسه مع اتفاق أوسلو وتوابعه بين 1993 و2000، وصولاً إلى سياسة التدمير المنهجي المنظم للجهود السلمية خلال السنوات العشر الأخيرة. ولذلك فليس مصير معاهدة السلام مع مصر هو أكثر ما يقلق إسرائيل الآن، بل "الكنز الاستراتيجي" الذي فقدته عندما تنحى مبارك وأُسدل الستار على عهده. هذا "الكنز" هو الذي انتهى، بما يعنيه من أن مصر لن تعامل إسرائيل معاملة متميزة مرة أخرى. وكان وزير الخارجية نبيل العربي واضحاً في ذلك عندما قال في حديث تلفزيوني الأسبوع الماضي، إن الهدف من المعاهدة كان تحويل إسرائيل إلى دولة طبيعية بطريقة ما، لكن البعض (يقصد النظام السابق) لم يقرأ الأوراق بطريقة سليمة وتصور أنه يجب أن تكون هناك معاملة مميزة لإسرائيل على نحو يخالف هذه المعاهدة. وما الربط بين معاهدة يتوافق المصريون ضمنياً على أنها ليست قضيتهم الملحة في الأمد المنظور، وسياسة مبارك تجاه إسرائيل التي يتفقون على أنها لا تليق ببلدهم، إلا خلط بين أمرين لا علاقة بينهما. فلم تكن مراجعة المعاهدة أحد أهداف ثورة 25 يناير. كما لم يكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون البلاد وحيداً في التزامه باحترام جميع الاتفاقات الدولية الموقعة. فليس ثمة ما يقلق إسرائيل على معاهدة كانت هي وحدها التي أساءت إليها، ولا تزال. لكن هناك الكثير مما يجوز أن يزعج إسرائيل في سياسة "مصر الجديدة" وموقفها الذي سيتغير بالضرورة تجاه سياستها العدوانية، وليس إزاء استمرار العمل بهذه المعاهدة. وهذه السياسة الجديدة هي ما تريد إسرائيل قطع الطريق إليها، أو على الأقل وضع سقف لها بحيث تكون مجرد إعادة إنتاج لسياسة العهد السابق.