لا يختلف اثنان على أن اللغة العربية هي عمود خيمة الهوية الوطنية، ولا يختلف اثنان أيضاً على أن النحو هو عمود خيمة اللغة العربية، ولا يمكن لخيمة مقاومة الرياح من دون عمود ثابت وقوي، وهنا تبدأ المشكلة في رأيي. ذلك أن النحو العربي يمثّل التحدي الأكبر لأي مشروع لتطوير مناهج اللغة العربية. وفي كل عام دراسي جديد، كنت أعاهد نفسي على فتح صفحة جديدة مع النحو، ومع الدرس النحوي الأول أقعد محدقاً في الأستاذ ومركّزاً في كل كلمة يقولها أو قاعدة يكتبها على السبورة، فإذا بذهني بعد دقائق يركّز في التركيز نفسه، أي أنني لا أعود أسمع كلمات الأستاذ وإنما كلامي لنفسي في ضرورة التركيز وفتح الصفحة الجديدة. وآخر عهدي بالنحو كان في امتحان اللغة العربية للصف الثالث الثانوي في فرعه الأدبي، وكان هذا الامتحان من 300 درجة خسرت منها 27 درجة فقط، وأعتقد أن نزيف الدرجات كان في فقرة النحو، إذ هي الفقرة الوحيدة من الامتحان التي اعتمدتُ فيها على مبدأ الحظ. ولا أذكر الآن إلا طلاباً يعدون على أصابع اليد الواحدة كانوا يفهمون المنطق الذي تقوم عليه مادة النحو، وكل الذين أسألهم الآن عن ذكرياتهم مع النحو أيام الدراسة يقولون ما أقوله، هو أنهم كانوا يعتمدون على الحظ في اختيار الإجابات. وحين عملتُ لفترة في الصحافة المكتوبة، كنت أتعجب من المدققين اللغويين، فكل واحد منهم لديه قواعد نحوية تختلف عن قواعد زملائه. ويبدو أن بعضهم كان مثلي يطيل التركيز أيام الدراسة حتى يفقد التركيز. ويقال إن أحد أسباب ذيوع الشعر الشعبي على حساب الشعر الفصيح هو النحو المطلوب في الفصيح، إذ يقعد الشاعر أمام القصيدة لا يعرف إن كان إعراب كلمات القافية صحيحاً من عدمه. وحين لا يعرف إن كانت الكلمة الأخيرة من البيت الشعري منصوبة أو مرفوعة أو مجرورة، فإنه لا يستطيع اختيار القافية من الأساس. فهل الكلمة الأخيرة هي "عاشقين"، ومن ثم تكون القافية الياء والنون، أم هي "عاشقون"، فتكون الواو والنون؟ بالطبع ليس من المعقول أن يتصل الشاعر بمدقق لغوي كلما كتب بيتاً، وهو لا يضمن في الوقت نفسه ألا يشطب المدقق نصف ديوانه! ولولا أن الصحف لديها فريق من المدققين، لما تجرّأ على الكتابة إلا أحفاد سيبويه ونفطويه، ومثل هذا في تأليف الكتب، فلابد أن تُعرض على مدقق لغوي ليحكم فيما كُتب. ويفرد المفكّر الراحل علي الوردي فصلاً في كتابه المثير "أسطورة الأدب الرفيع" لـ"عقدة النحو العربي"، يقول فيه إن النحو العربي متعب وغير مفيد، فهو لا يُعنى بتركيب الجملة أو ترابط معانيها وإنما بإعرابها، أي علامات التحريك (النصب والرفع والجر) التي تدخل على أواخر الكلمات. ويشبّه النحو العربي بالعقدة النفسية والوسواس الذي ليس بعده وسواس. ويبدو أن هذا الوصف صحيح، فليس من المعقول أن تتفق أجيال من الطلبة على صعوبة مادة ما، ويشاطرهم الرأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي ينقل عنه الوردي قوله: "فالتلميذ إذا ذهب إلى المدرسة واستمع إلى الأستاذ في اللغة العربية، في النحو والصرف أو في البيان، لم يستفد من أستاذه إلا شيئاً واحداً وهو النفور من الأستاذ والنفور من اللغة العربية". فما يقال عن صعوبة النحو لا يقال مثله عن الفيزياء مثلاً أو الرياضيات، أو علم العروض أو الإنشاء، وربما حتى عن علم الذرة.