من حق الناس في المجتمع الحر أن يقولوا ويكتبوا ويصوروا ويلبسوا كيفما يشاؤون، طالما أن أفعالهم وحرياتهم الشخصية لا تسبب ضرراً للآخرين. وعلى الذين يؤيدون تشريع حظر ارتداء البرقع في فرنسا، وهو ما أصبح ساري المفعول منذ أول أمس الاثنين، أن يبينوا لنا الضرر الذي يقع على المجتمع جراء ظهور بعض النساء وهن مغطيات الوجوه في الشارع العام. وحتى الآن يبرر مؤيدو هذا التشريع موقفهم بثلاث حجج لا أساس لها من الصحة. ففي أولاها يقول هؤلاء إن ثمة خطراً على السلامة الاجتماعية العامة من ارتداء البرقع. وعلى سبيل المثال، قال جان فرانسوا كوب –زعيم الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، وهو حزب ساركوزي- إن عملية سطو مسلح قد نفذت بواسطة مجرمين يرتدون البرقع في عدد من الأحياء القريبة من العاصمة باريس. وهناك من يثير مخاوف من أن يختفي بعض الإرهابيين الانتحاريين وراء البرقع. ولكن السؤال الذي نواجه به هؤلاء: كم عدد الحالات الإجرامية الشبيهة التي استخدم فيها البرقع لإخفاء وجوه المجرمين؟ فبالنسبة للذين نفذوا الهجمات الإرهابية على مترو لندن ومدريد، كانت حقائب الظهر وسيلة أكثر ملاءمة وسهولة لإخفاء المتفجرات التي كانوا يحملونها، وليس البرقع. وفي المقابل، فقد أصبحت تغطية الوجوه الوسيلة الأنسب لأولئك الذين يلجؤون إلى أعمال العنف في مظاهراتهم وحركاتهم الاحتجاجية منذ عدة عقود في مدن أوروبية عديدة كما نعلم. أما لصوص السطو المسلح، فقد جعلوا من تغطية الرأس بأكياس النايلون السوداء وغيرها، زياً مميزاً لهم. وعليه فإن من الغباء الاعتقاد فجأة بأن في وسع قلة من النساء المنقبات –يعتقد أن عددهن لا يتجاوز ألفين في فرنسا، وخمسمائة فحسب في هولندا- تشكيل خطر أمني على المجتمع، يفوق ذلك الخطر الذي يمثله الذكور المجرمون الذين اعتادوا تغطية رؤوسهم ووجوههم في جميع المدن والعواصم الأوروبية، أثناء قيامهم بأعمال السطو المسلح! وبذلك ننتقل إلى الحجة الثانية القائلة إن من قواعد المجتمع المفتوح الحر أن يستطيع الأفراد رؤية وجوه بعضهم. ومن ناحيتي فإنني أبدي تعاطفاً كبيراً مع هذا الاعتقاد. والحقيقة أن لمعظم المجتمعات الحرة قواعد منظمة للكيفية التي يبدو بها مظهرنا العام. وتحرم هذه القواعد تعري الجسد الكامل أمام العامة. وإذا كان الوجه المكشوف قد أصبح أحد الأعراف الاجتماعية السائدة في أوروبا على امتداد الخمسين عاماً الماضية –تماماً مثلما هي قاعدة ستر العورة- فإن من الطبيعي أن نعتقد بضرورة التزام الجميع بهذه القواعد. لكن وبما أن التشريع الفرنسي يزعم لنفسه طبيعة عدلية عامة، فإن التشريع المتعلق بحظر ارتداء النقاب لا يبدو كذلك مطلقاً. ذلك أن ساركوزي قد تبنى المطالبة بحظر البرقع، في إطار دفاع حزبه السياسي عن نمط العلمانية الفرنسية في وجه زحف العادات والتقاليد الإسلامية إلى نسيج المجتمع الفرنسي. ولكن يجب القول إن تلك المطالبة كانت لها صلة أكبر باستقطاب تأييد الناخبين المؤيدين للتيار "اليميني" الأكثر تطرفاً وكراهية للأجانب. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن المطالبة بحظر البرقع قد أخفت نفسها وراء نقاب سياسي هزيل يزعم لنفسه العدالة والحقوقية العامة. وأخيراً هناك من يدعي –وهذه هي الحجة الثالثة- أن بعض الضرر الاجتماعي الناجم من البرقع، يتمثل في قهر النساء المسلمات وإرغامهن من قبل أزواجهن وآبائهن على ارتداء البرقع. وفي هذا الصدد وصفت سيلفانا كوخ-ميهرن، نائب رئيس البرلمان الأوروبي، البرقع بأنه سجن متحرك للنساء. وأجد نفسي متعاطفاً مرة أخرى مع وجهة النظر هذه. ذلك أن الفيلسوف جون ستيوارت ميل –الأب الروحي المؤسس لمبدأ الضرر العام بالنظام الاجتماعي الليبرالي- كان شديد الاحتجاج والانتقاد للسلطة الاستبدادية للأزواج على زوجاتهم. ولكن أليس علينا أن نسأل النساء المنقبات عن رأيهن؟ فقد أظهرت نتائج دراسة قامت بها مؤسسة "أوبن سوسايتي" أجرت خلالها مقابلات مع 38 من النساء الفرنسيات المنقبات بالكامل، أكدت فيها جميع المستطلعة آراؤهن –باستثناء اثنتين فحسب- أنهن كن أول من يرتدي النقاب بين أفراد عائلاتهن، بينما أكدت جميعهن أن ارتداءهن للنقاب من اختيارهن الشخصي الحر. بل إن كثيرات منهن بدأن ارتداء النقاب ضد معارضة مبدئية من آبائهن وأزواجهن، خوفاً عليهن من التعرض لسلوك عدواني في الشارع العام من قبل الكارهين للإسلام والمسلمين. وهناك من وصفن اختيارهن لارتداء النقاب بأنه بمثابة تجربة روحانية بالنسبة لهن، وأنه يعني بالنسبة لهن وسيلة من وسائل تأكيد الهوية الخاصة والدفاع عن الذات وحمايتها من السلوك الوحشي الجنسي الذي يستهدف النساء في الشارع الفرنسي. فبارتداء النقاب أرادت النساء المسلمات القول للمتحرشين بالنساء في الشارع العام: نحن لسنا بضاعة تشترى وتباع، نحن لسنا قطعة من اللحم المبذول لكل من يشتهي ويرغب. هذا ما أكدته إحداهن، تدعى "فيفي" تبلغ من العمر 39 عاماً وتقيم في جنوب فرنسا. وربما لا نجد في حجج النساء المنقبات هذه ما يريحنا، بل ربما ننزعج من دفاعاتهن وإصرارهن على ارتداء النقاب. ولكن علينا الاعتراف –في مجتمعاتنا الحرة المفتوحة كما ندعي- أن سلوكهن هذا ليس سوى شكل من أشكال التعبير عن الحرية الشخصية، تماماً مثلما هي حرية شخصية أن نرسم من الكاريكاتيرات كما نشاء عن الرموز الدينية. تيموثي جارتون آش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"