هل يذكر العرب الآن حقاً أنه كانت لهم في يوم من الأيام ما اعتبروه قضيتهم الأولى، أي القضية الفلسطينية؟ من المعروف أن هذه القضية سيطرت على التفاعلات السياسية العربية بشكل أو بآخر منذ نشأة إسرائيل في عام 1948 وحتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، ثم بدأت تتوارى إلى الخلف شيئاً فشيئاً في عقد الثمانينيات تحت وطأة الحرب العراقية الإيرانية وما مثلته من تهديدات للنظام العربي (1980-1988). وتكفل العقد الأخير من القرن الماضي بمزيد من التراجع للمكانة النسبية للقضية بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990 وتداعيات هذا الغزو على النظام العربي الذي انقسم على نفسه كما لم ينقسم من قبل، غير أن الأهم هنا هو تداعياته على القضية الفلسطينية خاصة، نظراً للموقف الرسمي الفلسطيني الذي بدا مؤيداً آنذاك لهذا الغزو، خاصة وقد جاء -أي ذلك الغزو- في أعقاب "انتفاضة الحجارة" التي أرهقت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ نهاية 1987 وحتى وقوع الغزو نفسه. لكن القيادة الفلسطينية الرسمية قامت بدورها بعد ذلك الغزو مباشرة في تحقيق مزيد من التهميش للقضية بقبولها اتفاقية أوسلو 1993 والتي يكفيها -رغم أي "مزايا" يمكن أن تنسب إليها- أنها حيدت قوة المقاومة الرئيسية المتمثلة آنذاك في "فتح" وحولتها إلى قوات أمن تحول دون الشعب الفلسطيني والانتفاض مجدداً ضد الاحتلال الإسرائيلي! وقد رد النظام العربي على هذا التصرف "بأحسن" منه، فكيَّف نفسه طيلة ما تبقى من عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين على نهج روتيني يتعامل به مع القضية، يتمثل في مبدأ أن السلام هو الخيار الاستراتيجي "الوحيد" لحل القضية الفلسطينية، والشجب اللفظي للاعتداءات الإسرائيلية الوحشية على الشعب الفلسطيني، واتخاذ قرارات بالدعم المالي "السخي" لهذا الشعب لا ينفذ منها إلا أقل القليل، والدخول في مفاوضات عقيمة ثبت للجميع عدم جدواها، بل وخطورتها على القضية لما تتيحه من وقت للمشروع الصهيوني الاستيطاني في الضفة الغربية. وزاد الطين بلة الانقسام الدموي الذي وقع بين حركتي "فتح" و"حماس" عام 2007 في قطاع غزة، واللذين يفترض أنهما الفصيلان الرئيسيان في المقاومة الفلسطينية. في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد الوطن العربي زلزالاً سياسياً تمثل في حركات التغيير والاحتجاج في العديد من البلدان العربية، والتي حققت أهدافها في إسقاط النظامين الاستبداديين في كل من تونس ومصر، وما زالت مشتعلة في عدد آخر من البلدان العربية حتى تحدث البعض عن ثورة عربية شاملة وفق "نظرية الدومينو". صحيح أن هذا الرأي لم يتحقق حتى الآن، لكن المؤكد أن العقل والمنطق يفضيان إلى أن يكون الشعب الفلسطيني هو أول المتأثرين بموجة التغيير هذه لسبب بسيط، وهو أنه إذا كانت شعوب عربية قد ثارت على حكامها المستبدين، فإن الاحتلال أشد استبداداً وإذلالاً للكرامة، ناهيك عن أن هذا الطرح ينطلق أصلاً من أن نظامي الحكم الفلسطينيين في الضفة والقطاع بحاجة إلى ممارسة مزيد من الضغوط عليهما كي يغيرا ما بنفسيهما. وأذكر أنه في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ومع ذروة "انتفاضة الحجارة"، بلغ حماس عدد من المحللين والسياسيين العرب للانتفاضة الحد الذي جعلهم يتحدثون عن تغير النظام العربي بسبب هذه الانتفاضة التي تحدت سلطة عاتية هي سلطة الاحتلال، وأن روح الانتفاض ستسري من ثم في عروق هذا النظام، وكنت مختلفاً مع هذا الرأي على نحو قاطع لأن ظروف الانتفاض في النظام العربي لم تكن قد نضجت آنذاك، وبالتالي فإن "الجزء" لا يمكن أن يؤثر في الكل، خاصة وأن المشكلة الفلسطينية كانت مشكلة تحرر وطني تختلف عن مشكلة النضال من أجل بناء الديمقراطية من حيث طبيعتها. غير أن الوضع قد انقلب في هذه المرة، فأصبح "الكل" في الإطار العربي المحيط هو الذي يتغير بدءاً بتونس فمصر وغيرهما، مع انسداد آفاق التسوية السلمية للقضية الفلسطينية على النحو الذي ظهر من خبرة ما يقرب من عشرين عاماً من المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ناهيك عن الفارق الجوهري الأهم وهو أن الفلسطينيين أصبحوا يخضعون لنظامي حكم يجوز عليهما ما يجوز على غيرهما، فالقبضة الأمنية في الضفة لا تختلف عن مثيلتها في غزة حتى وإن كانت هناك فروق في الدرجة، فضلاً عن أن النظامين الفلسطينيين المتصارعين قد أثبتا عجزهما عن حل القضية الوطنية الفلسطينية أو حتى تحريكها، فأصحاب الضفة يؤمنون بمبدأ التفاوض إلى يوم القيامة، وهو ما لا يمكن أن يأتي بحل أو حتى تسوية شوهاء في ظل التركيبة الإسرائيلية عامة وبنية الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة خاصة، وأصحاب غزة يرفعون شعار المقاومة، وهو الطريق الوحيد لنيل الحقوق، لكنهم يمارسون سياسة التهدئة مع إسرائيل بعد أن أصبحوا بدورهم، منذ فوزهم بالانتخابات التشريعية لعام 2006 أصحاب سلطة يخشون عليها، وإسرائيل سعيدة بكل منهما على حدة وبالصراع بينهما خاصة. ترى ما هو التفسير المحتمل لذلك السلوك من قبل الشعب الفلسطيني الذي لم ينتفض لا ضد إسرائيل ولا ضد نظامي حكمه اللذين أخفقا في استرداد ولو جزء يسير من الحقوق الفلسطينية؟ صحيح أن بعض التحركات الشعبية المحدودة قد حدثت، وأن هناك دعوة لانتفاضة جديدة ضد الاحتلال، لكن السؤال يبقى مشروعاً حتى ينتفض الشعب الفلسطيني. أترى هذا الشعب سعيداً بالقبضة الحديدية لـ"حماس" في غزة وتوجهاتها الاجتماعية قبل السياسية؟ أم تراه سعيداً بالحصار الذي أوصل غزة إلى وضع غير إنساني بإجماع الكافة؟ أم تراه سعيداً في الضفة بارتفاع حدث في مستوى معيشته بسبب الاستقرار السياسي النسبي والمساعدات الخارجية؟ وهل يعني هذا أن القضية الفلسطينية قد همشت حتى من أصحابها وإن بدون قصد؟ لقد سبق لرئيس الوزراء في غزة أن دعا رئيس السلطة الفلسطينية لزيارة القطاع لبحث قضية المصالحة، ورد رئيس السلطة بدوره بإبداء استعداده للقيام بهذه الزيارة لهذا الغرض وسط حماس محدود من النخبة المحيطة به، مما يعني أن هناك من أصبحت له مصلحة في أوساط النخبة الحاكمة في رام الله في استمرار الانقسام بين "فتح" و"حماس"، وهو ظن لا ينجو منه أصحاب "حماس" الذين بدأوا بعد قبول الرئيس عباس القيام بالزيارة الحديث عن شروطها وضوابطها إلى أن ضاعت الفرصة. وفي الوقت نفسه فإن إسرائيل تواصل اعتداءاتها "المعتادة" على القطاع، وهي اعتداءات سقط فيها مؤخراً عشرات الشهداء والجرحى "رداً" على إطلاق صواريخ من غزة لا يمكن أن تمثل وحدها استراتيجية لاسترداد الحقوق الضائعة. وإذا تم الالتزام بالتهدئة التي أعلن أن الجانبين قد توصلا إليها أول أمس، فهذا لا يعني أن أعمال العدوان الإسرائيلي ستتوقف بالضرورة لمدة طويلة. فعلى أي شيء يراهن الفلسطينيون؟ هل ينتظرون حتى يتغير محيطهم العربي على نحو جذري يؤدي إلى استردادهم حقوقهم ولو على المدى الطويل؟ قد يكون هذا الرهان صحيحاً، لكن الدور الفلسطيني في عملية استرداد الحقوق هذه يبقى هو الأهم. هل تخلت الأجيال الفلسطينية الجديدة عن النضال من أجل الحرية؟ أم أنها فقدت القدوة؟ كلها أسئلة مقلقة وحساسة تبحث عن إجابة اليوم قبل الغد.