في لحظات الأزمات تتزايد المخاوف، ومع تزايدها تتكاثر التأويلات وتنتشر التحليلات لتغطي المشهد من أقصى اليمين لأقصى اليسار، فيسيطر على البعض فكر الخرافة ويقود البعض الآخر فكر المؤامرة، وتفوح روائح الطائفية المقيتة والتعصب القبلي هنا وهناك، وتصبح مساحة العقل والمنطق ضيقةٍ وأنصارها مستضعفين، وتحت الخرافة والمؤامرة والطائفية تغيب كثير من الحقائق على الأرض والمعطيات في الواقع. يتفق الجميع على أن العالم العربي يشهد أزمة لم يشهد لها مثيلاً، بل لا نبالغ إن قلنا إن العالم بأسره لم يشهد مثيلاً لما جرى ويجري في العالم العربي اليوم، فلا مثال يقاس عليه، ولا سابقة يعتبر بها، ويبقى الأمر بأسره رهيناً للقدرة على الوعي بالجديد، والقدرة على رصد المتغير، والإمكانية لمحاكمة هذا وذاك لمنطق العقل والعقل خير حكم. من الحقائق على الأرض أنّ ما يسمّى بالثورات العربية ربما ليست ثورات بالمعنى المعروف والمتداول، ففيها من الثورات اشتمالها على كثيرٍ من الغوغائية في المشاركة وكثير من الضبابية في الرصد والمتابعة، فهذه الاضطرابات والمنخرطون فيها لا تكاد أن ترى المشهد الداخلي ولا الإقليمي ولا العالمي بوضوحٍ، ومن هنا فإنّ ما يفرّقها عن الثورات هو أننا نجد التغاضي أو التبنّي أو الترميز لمواقف قياداتٍ كانت رموزاً فاعلةً ومؤثرةً بقدرٍ كبيرٍ ولعقودٍ عدةٍ في الأنظمة التي تمّت الثورة عليها. في مصر على سبيل المثال، يتولّى المشير محمد طنطاوي قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلّحة، وطنطاوي كان من رموز النظام السابق الفاعلين، وفي ليبيا يتولّى قيادة المجلس الوطني الانتقالي وزير الأوقاف السابق في نظام القذّافي ويتولّى القيادة العسكرية عبدالفتاح يونس رفيق القذّافي من أول يومٍ في ثورة الفاتح ووزير داخليته لعقودٍ، وفي سوريا يتحدث خدّام وكأنه من رؤوس المعارضة منذ عقود، وفي اليمن يتصرف علي محسن الأحمر وكأنه لم يقدم سنوات عمره خدمة للنظام. من هنا يمكن القول، بشيء من التحفظ، إنّ ما يُسمّى بالثورات في العالم العربي ليست ثوراتٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة ولكنّها احتجاجات تريد التغيير للتغيير، وتعبّر عن تنازعٍ للسلطة بين أجنحةٍ الأنظمة القائمة، التي يسعى بعض أطرافها لخلخلة تلك الأنظمة بأية طريقةٍ، لرغبةٍ في سلطةٍ أكبر أو لتعبيرٍ عن مللٍ من الانتظار، وهي –أيضاً- ليست ثوراتٍ بمعنى أنها جاءت عبر تراكم الرؤية الفكرية والثقافية والتاريخية التي تعبّر عن نفسها بخطابٍ جديدٍ متماسكٍ ورؤيةٍ واستراتيجية جديدةٍ تسعى لها وتضحي من أجلها. نعم، ثمة جديد فيما يجري، وهو دخول الشباب في العالم العربي على المشهد السياسي بقوة، وهم الأكثر عدداً والأكثر التصاقاً بالعالم الحديث ومفاهيمه ودخول وسائل الاتصال الحديثة على المشهد بقوةٍ أيضاً، مع قدرة كبيرةٍ لهؤلاء الشباب على التأثير في المشهد السياسي بشيء من التنسيق الذي تؤمنه لهم وسائل الاتصال الحديثة. كان هذا حديثاً في المشهد العام، وفي التفاصيل نجد أن مصر تشهد اضطراباً كبيراً والحكومة المؤقتة أو الانتقالية هناك تتخذ قراراتٍ استراتيجية ليست مخولة بها، فهي لم تأت عبر انتخابٍ بأيٍ شكلٍ من الأشكال، ومع هذا تتخذ قراراتٍ في مسائل شديدة الحساسية في تاريخ مصر وموقعها السياسي كالتعامل مع مشكلة النيل المهمة. ومسألة النيل في مصر مسألة من أكبر مسائل الأمن القومي، وكذلك تغيّر الحكومة المؤقتة من التوجه السياسي العام لمصر كدولة في التعاطي مع بعض المحاور الإقليمية كإيران بكل تفرعاتها حيث تصريحات وزير الخارجية المصري، حول إيران، و"حزب الله" وإعادة بناء العلاقات معها، وحيث أول زيارة لرئيس المخابرات المصري الجديد (اللواء موافي) لسوريا وكل هذه المواقف تثير أسئلة مستحقة داخل مصر وفي محيطها العربي عن انتقال مصر بكل تاريخها وثقلها لمحورٍ معادٍ للعرب، وهل هذه المواقف بغرض خدمة مصالح مصر؟ أم بغرض مناكفة كل ما كان النظام السابق يعتمده من سياسات حتى ولو كانت هي الأصلح لمصر؟ في تفاصيل المشهد كذلك تركيا الداخلة بقوة وانتشارٍ وكثافة قبل الأحداث الثورية والاضطرابات والاحتجاجات في عدد من الدول العربية وبعده، وها هي ترسم سياساتها ومواقفها بوعي شديد الخطورة والتأثير على مستقبل العالم العربي، والشرق الأوسط عامةً، فهي تمارس دور الوسيط المنافس للغرب في ليبيا، وتمارس ضغوطاتٍ على سوريا، وتسعى للدخول في العراق وغيره من بلدان العالم العربي ما يستوجب وعياً بهذا الدور الجديد ورصداً له ووضع استراتيجية متكاملة للتعامل معه. إن الجموح الإيراني والطموح التركي والانقضاض الغربي على المنطقة العربية جدير بالعناية والتركيز، ومن ثم القراءة والتحليل، فهي جميعاً دول لها مصالح واضحة ومحددة تسعى لتحقيقها وتجيش شعوبها لها، وتخضع مؤسساتها للاستجابة لها في كل قرارٍ وكل موقفٍ وكل سياسةٍ، وهو ما لا يجري مثيله في البلدان العربية، وإن استيقظ بعضها لبعض الوقت فإنها طالما تغفل عنه. أما الجماهير فهي مستمرة فيما هي بصدده، تهتف دون وعي وتقدّم التضحيات دون مقابل، وتحتشد وتزدحم وتتحمّس في الساحات والميادين ليقطف الثمار غيرها، ويكتب التاريخ من أحسنوا استغلالها أو الاستفادة منها، ولأنها ثورات بلا أبٍ فقد ادّعاها كل قادرٍ، فسعد الحريري يخاطب أنصاره في بيروت ويهنّئهم بأنهم كانوا الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات، و"أسانج" صاحب "ويكيليكس" يعتقد أنّ موقعه ووثائقه هي الشرارة وغيرهما كثير. في سوريا، تصاعد متسارع للاحتجاجات لا تقابله استجابة من جهة النظام، ويبدو النظام هناك وكأنه يريد التغيير والإصلاح، ولكن ببوصلة تختلف تماماً عن بوصلة الجماهير، فحين يطالبون بشيء من الحرية يمنح الأكراد الجنسية، وحين يهتفون للتغيير يزداد النظام في عنفه في التعامل معهم، ويبدو المشهد السوري مؤذناً بنموذج جديد ومختلفٍ يضاف لنماذج متعددة شهدتها المنطقة العربية منذ مطلع العام، ومن هنا تصبح تصريحات عبدالحليم خدّام نائب الرئيس السوري السابق حول طبيعة النظام محل تأملٍ، فخدّام قال إن "المشكلة في طبيعة النظام، أعرف تركيبة النظام، هذه الأنظمة غير قابلة للإصلاح، وزمن هذه الأنظمة ولّى"، وبغض النظر عمّا يريده خدّام من هكذا تصريحات، فإنّ خبرته بطبيعة النظام هناك لا تقبل الجدل. في ليبيا، يبدو الجميع متورطاً، من أميركا والغرب إلى الثوّار المسلّحين، وبدأت التصريحات العسكرية للقيادات الأميركية تشير إلى عدم القدرة على حسم المعركة عسكرياً، وأن الحلّ الواجب طرحه هو الحلّ السياسي، وبقاء القذّافي وصمود نظامه كل هذا الوقت يضع كثيراً من الأنظمة السياسية التي اتخذت مواقف معاديةٍ له في حرجٍ شديدٍ، ولم يزل المشهد هناك مفتوحاً على كل الاحتمالات. لكأن ما يجري امتحان للدول العربية لمعرفة التحديات التي تواجهها داخلياً أولاً وإقليمياً ودولياً ثانياً، وامتحان لها لرسم طرق الخلاص النافعة والمجدية، ومواجهة تلك التحديات بكل ما تستوجبه من وعي بالتاريخ وتطوّره، والواقع وشروطه، وبالمصالح التي يجب رعايتها والخطوات التي يجب اتخاذها.