علقت وزيرة الخارجية الفرنسية المقالة أخيراً "اليوت ماري" على أحداث الثورة التونسية بالقول "لا أجد غضاضة في الاعتراف أننا لم نتوقع الحدث ولم نتهيأ له". كانت الوزيرة نفسها التي تعودت على قضاء عطلها العائلية على الشواطئ التونسية، قد قللت من أهمية انتفاضة سيدي بوزيد، وأكدت استعداد بلادها لمساعدة قوات الأمن التونسية في التعامل مع الحركة الاحتجاجية المتنامية. غير ساركوزي وزيرته للخارجية وسفيره في تونس الذي استبدله بوجه شاب مستعرب، لم يكن أقل حظاً من سلفه، فخرجت الجماهير للمطالبة بتنحيته بعد حديث غير موفق للصحافة، مما أظهر أن فرنسا بكامل عدتها الدبلوماسية والاستخبارية وخبرتها الطويلة في التعامل مع مستعمرتها السابقة لم تعد قادرة على بلورة رؤية استراتيجية دقيقة لوضع مجالها الحيوي في جنوب المتوسط. برز المأزق الاستراتيجي نفسه في تسيير الاتحاد الأوروبي للملف الليبي، مما تجلى في إشكالات ثلاثة: قرار التدخل العسكري (حدوده ونمط إدارته) والطرف الليبي الشريك والمحاور، وصيغة الحل السياسي المقترحة. فبعد الضربات الجوية الأولى التي اقتضتها الأوضاع الإنسانية الكارثية على الأرض والضغوط العربية الصريحة، بدا من الجلي أن وحدة القرار الأوروبي مفقودة وأن القوى الغربية تفتقد لأي رؤية منسجمة ومتكاملة للأزمة الليبية المتفاقمة. لم تكن الولايات المتحدة الأميركية بأكثر حظاً في مقارباتها الاستراتيجية للأوضاع العربية الجديدة. صحيح أنها واكبت عملية التغيير في تونس ومصر، بيد إنها أظهرت عجزاً فادحاً عن التأثير في المعادلة الجديدة في البلدين، على الرغم من تحركات وتصريحات وزيرة الخارجية "هيلاري كلينتون"، التي زارت مؤخراً المنطقة، والتقت بالحكومتين المؤقتتين في مصر وتونس. فإدارة أوباما التي حرصت بقوة على تغيير صورة أميركا الباهتة في الرأي العام العربي وجدت في الثورات العربية الأخيرة فرصة سانحة لاستعادة خطاب تصدير الديمقراطية للعالم العربي، الذي بلوره "المحافظون الجدد" وتبناه الرئيس السابق "بوش الابن" في سياق مقاربته لمواجهة الإرهاب بصفته رديف الاستبداد والقمع. إلا إن استراتيجية دعم التغيير الديمقراطي في العالم العربي توجه ثلاثة عوائق محورية بارزة في الخطاب السياسي الأميركي: التأثيرات السلبية المحتملة على صعيد الصراع العربي – الإسرائيلي، والصعود المحتمل للتيارات الأصولية المتشددة والحركات الإرهابية، وتراجع النفوذ الأميركي عربياً بانهيار بعض الأنظمة الحليفة في المنطقة. وتصدر هذه العوائق الثلاثة عن إشكالين محوريين، أحدهما يتعلق بطبيعة العلاقة بين الرهان الديمقراطي في أبعاده الداخلية والخيارات المترتبة عليه في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، ويتعلق ثانيهما بطبيعة العلاقة بين المنظور القيمي للديمقراطية التعددية، الذي يرجع بها لسياقها التنويري الليبرالي الغربي وآلياتها الإجرائية التنظيمية، التي تجعلها في مصلحة القوى المهيمنة اجتماعياً وثقافياً، التي ليست هي عادة الحليف المحلي للغرب. فبخصوص الإشكال الأول، نلاحظ أن الفكر السياسي الأميركي كثيراً ما أكد على أن الديمقراطيات أسرة واحدة ومنسجمة، وإن أفضل وسيلة لتأمين السلم الدولي هي كسر الاستبداد ونشر الديمقراطية. بيد أن تجربة الأنظمة الديمقراطية الجديدة في أميركا اللاتينية أثبتت لواشنطن زيف العلاقة الائتلافية العضوية بين "القطب الديمقراطي الأكبر"، والهوامش الديمقراطية الجنوبية الناشئة، التي عادة ما تفضي فيها الإرادة الشعبية إلى صعود القوى الأيديولوجية والسياسية المناوئة لنفوذ وسياسات الولايات المتحدة. فلا عبرة بتكرار تجربتي أوروبا الغربية واليابان في علاقتهما بحليفهما الأميركي الذي تقاسمتا معه المصالح الجيوسياسية والاقتصادية في سياقات تاريخية معروفة. وتؤكد التجربة التركية الحالية هذا التوجه، باعتبار التحولات النوعية المهمة في السياسة الخارجية لهذا البلد الإسلامي الكبير بعد وصول حزب "العدالة والتنمية" للسلطة. أما الإشكال الثاني، فقد طرح على العقل السياسي الأميركي أسئلة عصية، يتعلق بعضها بمدى قابلية استنبات الديمقراطية في سياقات ثقافية غير ليبرالية، ويتعلق البعض الأخر باتهام الإسلام بالانغلاق والاستبدادية مما يفضي إلى "اغتيال"كل أفق ديمقراطي بأدوات الديمقراطية (أي الانتخابات التعددية الحرة). ومن الواضح أن الإدارة الأميركية الحالية تراهن في المناخ الثوري الجديد على بروز تشكيلات إسلامية معتدلة وليبرالية على غرار حزب "العدالة والتنمية" التركي قادرة على الدخول في" توافق الحد الأدنى"، (الديمقراطية التعددية دون انهيار التوازنات الاستراتيجية الأساسية في المنطقة). وفي ما وراء هذين الإشكالين، يبدو من الواضح أن الحالة العربية الجديدة تفرض على القوى الدولية إعادة تحديد مفاهيمها ومقولاتها التحليلية والاستشرافية. وفي مقدمة هذه المقولات مفهوما "الشريك" و"المحاور"، بعد أن تبينت حدود التركيز على الأنظمة الحاكمة، وما يترتب عن إهمال القوى السياسية الفاعلة الأخرى (كما حدث في مصر وتونس، وكما هو جلي حالياً في مصاعب التعامل مع الساحة الليبية). كما أن الاستعداد الغربي المعلن لمواكبة التحولات الجارية في العالم العربي ولدعم المسارات الانتقالية في البلدان، التي شهدت ثورات على الاستبداد والقمع يعاني من ثغرة كبرى في تصور الحلول والآليات المناسبة لإنجاح التحول المنشود. فعلى الرغم من طول وتنوع الخبرة الغربية في رعاية تجارب التحول الديمقراطي الناجحة، فإن الحالة العربية الراهنة غير قابلة للتصنيف في أي من المسارات الكبرى التقليدية: الثورات السياسية والدستورية الأوروبية والأميركية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الثورة التحررية الاجتماعية في الهند التي التقت فيها مقاومة الاستعمار مع بناء الدولة الديمقراطية، الانتفاضات الأوروبية الجنوبية ضد الديكتاتوريات العسكرية في سبعينيات القرن الماضي، تجربة البناء الديمقراطي في اليابان بعد الهزيمة العسكرية برعاية أميركية، تجارب التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية بعد انهيار جدار برلين... تتمثل الخصوصية العربية في محورين أساسيين هما: تباين السياقات المحلية على الرغم من وحدة المجال الإقليمي (لا توجد حالة عربية نموذجية)، غياب قيادات بديلة جاهزة عن الأنظمة المنهارة لإدارة المراحل الانتقالية وإنضاج التحول الديمقراطي على عكس بلدان أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية، التي اضطلعت فيها المعارضات المنشقة بهذا الدور الضروري.