بينما اعتبر رئيس الوزراء هاشم تاتشي أن اختيارها رئيسة للجمهورية يمثل "نجاحاً جديداً للحوار الداخلي بين مختلف ألوان الطيف السياسي"، ورأى فيه بعض المراقبين مخرجاً من أزمة سياسية استمرت عدة أشهر، فقد بدت "عاطفة يحياغا" متفاجئة بفوزها، إذ اعترفت أنه "حتى أمس (الأربعاء الماضي) لم أكن أتوقع أن أتولى منصباً سياسياً رفيعاً، لكني مع ذلك كنت دائماً على استعداد لخدمة بلادي". وقد أصبحت يحياغا منذ الخميس لماضي رابع رئيس لجمهورية كوسوفو منذ إعلانها عام 1990، حيث فازت في الجولة الأولى من التصويت في البرلمان، بحصولها على 80 صوتاً من أصل 120، معتمدة على ممثلي أحزاب الائتلاف الحاكم بقيادة "الحزب الديمقراطي" الذي يتزعمه تاتشي، وعلى دعم من الأقليات والمرأة، وكانت من مؤيديها رئيسة وفد الحوار مع بلغراد "إديتا طاهري"، علاوة على السفير الأميركي في كوسوفو الذي قالت المعارضة إنه هو من انتخب يحياغا وليس البرلمان! ويحتج معارضو يحياغا بالقول إنها ليست ذات خبرة سياسية أو دراية جيدة بالملفات الكبرى في السياسة والاقتصاد، وأنها ذات خلفية أمنية بالأساس. وبالفعل فهي جنرال في الشرطة الكوسوفية، وتحمل أعلى رتبة عسكرية تحصل عليها امرأة في شرق أوروبا وغرب البلقان، وتتولى منصب نائب القائد العام للأمن الوطني. ويرى مؤيدوها أنها ذكية ومرنة وذات قدرة على التعامل مع مختلف المواقف والمشكلات الطارئة. ولدت عاطفة يحياغا في أبريل 1975، أي أن عمرها يزيد عاماً واحداً عن الحد الأدنى البالغ 35 عاماً، واللازم لتولي منصب الرئاسة في كوسوفو. وعلاوة على أنها أول امرأة تشغل ذلك المنصب، فهي أصغر من تولاه حتى الآن. وقد حصلت يحياغا على تعليمها الأساسي في مسقط رأسها بمدينة جياكوفا في إقليم كوسوفو حين كان جزءاً من يوغسلافيا الاتحادية التي ضمته إليها عام 1946 كإقليم ذي حكم ذاتي بعد أن كان جزءاً من ألبانيا خلال قرون من خضوعها للسيطرة العثمانية. لكن حين دخلت يحياغا كلية الحقوق في جامعة بريتشينا في أواسط التسعينيات، كانت يوغسلافيا قد تفككت؛ ففي يوليو 1990 أجرت الأغلبية الألبانية المسلمة في كوسوفو استفتاءً عاماً كانت نتيجته معبرة عن رغبة واسعة في الانفصال عن صربيا وإقامة جمهورية مستقلة. وفي مايو 1992 انتخب الأهالي إبراهيم روغوفا رئيساً لجمهورية كوسوفو الجديدة، فحاول بنهجه السلمي كسب تعاطف المجتمع الدولي ونيل الاعتراف الخارجي بجمهورية كوسوفو، لكنه لم يفلح في ذلك، فكوّن الشباب الألباني في عام 1998 خلايا "جيش تحرير كوسوفو" لمواجهة الجيش الصربي الذي ارتكب مجازر وحشية ضد المدنيين الألبان، مما أجبر المجتمع الدولي على التحرك، فشن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في مارس 1999، غارات جوية أرغمت ميلوزوفيتش على سحب قواته من كوسوفو. وفقدت بلغراد السيطرة فعلياً على الإقليم ليصبح تحت حماية الأمم المتحدة وحلف "الناتو" الذي لايزال ينشر هناك نحو 17 ألف عسكري. ثم قدمت الأمم المتحدة "خطة اهتيساري" المتضمنة استقلال الإقليم تحت إشراف دولي، فدعمها الأميركيون ومعظم الأوروبيين. وبعد عام واحد على طرد القوات الصربية من كوسوفو، انضمت يحياغا لسلك الشرطة، وتلقت تدريبها في الأكاديمية الأمنية في بريتشينا، ثم سافرت إلى الولايات المتحدة حيث تدربت في وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف. بي. آي)، كما تلقت دورة تدريبية في بريطانيا. وتدرجت في رتب السلك الأمني إلى أن أصبحت جنرالاً في عام 2009، لتكون أول امرأة في كوسوفو تحمل تلك الرتبة. وتقديراً لصعودها في سلم الرتب العسكرية، تم تعيين الجنرال يحياغا، المتزوجة من طبيب مقيم في بريتشينا، نائباً لقائد الشرطة الوطنية الكوسوفية، وقائماً بأعمال رئيس شرطة كوسوفو. وقد تولت مهامها تلك بالتزامن مع بداية التأزم الداخلي الذي دخلته كوسوفو بعد إعلان استقلالها بوقت قصير. ففي 17 فبراير 2008 أعلن تاتشي أمام البرلمان قيام "جمهورية كوسوفو" المستقلة، وهو استقلال اعترفت به 72 دولة رغم معارضة صربيا التي لا تزال تعتبر كوسوفو محافظة جنوبية تابعة لها. لكن حكومة تاتشي لم تنجح في استثمار الزخم الدولي لكسر حاجز المئة اعتراف وصولاً إلى عضوية الأمم المتحدة، كما بقي الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الإقليم يراوح مكانه، فنشأت داخلياً حالة من السخط والتذمر جراء الفساد المتنامي. فكوسوفو، الغنية بمعادنها، وبأرضها الخصبة ذات السهول المحاطة بالجبال والتلال، والمخترقة بأربعة أنهر و17 بحيرة... بقيت بلداً بلقانياً حبيساً ويعاني وضعاً اقتصادياً مزرياً، بل أفقر دولة في يوغسلافيا السابقة، بنسبة بطالة تبلغ 50 في المئة، جراء إرث التمييز الذي عاناه الإقليم على أيدي الصرب، والذي لم تنجح سياسات ما بعد الاستقلال في إزالة آثاره. ثم سرعان ما تصدّع التحالف الحاكم بين "الحزب الديمقراطي" و"الرابطة الديمقراطية"، وأدت الاستقالة المفاجئة لرئيس الجمهورية "فاتمير سيديو" (ينتمي للرابطة الديمقراطية) من منصبه، إلى تعجيل موعد الانتخابات وإجرائها في 22 يناير 2011. لكن في 28 مارس المنصرم أصدرت المحكمة الدستورية حكماً ألغت بموجبه انتخاب الرئيس الفائز، رجل الأعمال الثري "بهجت باكولي"، مما أدخل الدولة الوليدة في أزمة سياسية هددت بتقويض مؤسساتها الناشئة. على هذه الخلفية، ووسط انسداد داخلي تعانيه كوسوفو، تم الدفع بيحياغا غير المنتمية حزبياً، إلى منصب الرئاسة وفق اتفاق بين الأحزاب الرئيسية، تكون بموجبه آخر رئيس للجمهورية ينتخبه البرلمان الكوسوفي، إذ ستتولى الرئاسة لفترة انتقالية واحدة فقط، ولحين سن قانون جديد للانتخابات وتفعيله. وسينص القانون المرتقب على انتخابات رئاسية مباشرة، وفي غضون ستة أشهر من صدوره. وفي انتظار ذلك، يبقى منصب الرئاسة في النظام السياسي الكوسوفي، شرفياً وقليل الصلاحيات إلى أقصى حد، فيما يمتلك رئيس الوزراء كل السلطة التنفيذية تقريباً، وهو حالياً رجل كوسوفو القوي والطموح تاتشي... بينما تبدو رئاسة الجمهورية بمهامها القليلة وصلاحياتها المحدودة، مناسبة لسيدة لم تخض العمل السياسي سابقاً ولم تتطلع يوماً إلى تولي أية مسؤولية سياسية، مثل الجنرال عاطفة يحياغا! محمد ولد المنى