عوامل عديدة لعبت وتلعب أدواراً في دعم واحتضان وتوجيه الثورات العربية في أكثر من دولة عربية كدور الشباب والثورة المعلوماتية. وبالرغم أن هذه الثورات لم تصل بعد إلى خواتيمها وتحقق مرادها خاصة لأن الثورات بخواتيمها، فإن هناك أملاً حقيقياً في التغيير بما أطلقت عليه النسخة العربية من الصدمة والترويع، والتي هي غير الصدمة والترويع الأميركية بتغيير الأنظمة بالدبابات، أو بالتغيير الثوري والعنف على طريق تنظيم "القاعدة". ولكن ماذا عن دور الولايات المتحدة، وهو دور لطالما مثّل الصوت المرتفع ومطالباته بالإصلاحات والديمقراطية والحريات والذي ضغط على الحكام وحذرهم وتوعدهم وآخرهم بوش الابن وسعيه المحموم والمثالي إلى دمقرطة المنطقة. دفعه سذاجة الطرح بأن الديمقراطيات تمثل أنظمة مستقرة لا تنجب الإرهابيين ولا تعتدي على جيرانها وتتحالف مع الأنظمة العلمانية، وبالتالي تكون حليفاً للغرب الذي يريد حماية مصالحه. ولكن سرعان ما تخلى بوش الابن عن ذلك التنظير الساذج بعد فوز القوى الإسلامية في أكثر من دولة ومجتمع، وعاد الأميركيون ليطرحوا مطالب لا تتجاوز الخطب الإنشائية وذر الرماد في العيون عن طريق المبادرات والدعوات والأمنيات. وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس قد فضحت في لحظة اعتراف نادرة التناقض الأميركي عندما أعلنت أثناء محاضرتها بالجامعة الأميركية في القاهرة وبوضوح: "على مدى 60 عاماً قامت الولايات المتحدة بمقايضة الديمقراطية والحريات بالأمن والاستقرار، ولم نحقق أياً منهما." إذن هو فشل مزدوج. وكل مطالبات واشنطن من الحكام وللشعوب لم تكن جادة أو واقعية بل، كانت شعارات. لذلك لم يكن مقنعاً تحذيرات وزيرة الخارجية في إدارة أوباما هيلاري كلينتون. مع اندلاع الثورات العربية في يناير الماضي في منتدى المستقبل في الدوحة من التأخر في إدخال الإصلاحات"لأن شعوب المنطقة سئمت المؤسسات الفاسدة والسياسات الراكدة."وأكدت"هناك دول قليلة في المنطقة لديها خطط للتعامل مع الرؤية المستقبلية. وفي أماكن كثيرة في المنطقة تغرق الأسس في الرمال. وآخرون سيملأون الفراغ إذا ما فشل القادة في إعطاء رؤية إيجابية للشباب وسبل حقيقية للمشاركة لأن العناصر المتطرفة والمجموعات الإرهابية والجهات الأخرى التي تتغذى على الفقر واليأس موجودة على الأرض وتتنافس على النفوذ. لذلك فإنها لحظة دقيقة واختبار للقيادة لنا جميعا."كما طالبت بمحاربة الفساد لأنه يصعب على المستثمرين الخارجيين الاستثمار في المنطقة. بهذه الخلفية، لم يكن مستغرباً التردد وعدم الحسم الأميركي في الاستجابة للمطالب الشعبية والثورات العربية. وضمن هذا الإطار، فإن إدارة أوباما لم تطالب برحيل بن علي، وتأخرت حتى انحازت للشعب في مصر بعد أن قالت قبيل اندلاع الثورة بأيام أن نظام مبارك مستقر وآمن، ثم تقدمت المطالب الأميركية بمطالبات الإصلاح مع تصاعد الثورة إلى المطالبة في الأيام الأخيرة بتعيين نائب للرئيس (عمر سليمان) ثم بالضغط في آخر يوم من أيام مبارك لنقل السلطة للمؤسسة العسكرية التي بقيت على الحياد. أما في الحالة الليبية، والتي لا تشكل أهمية استراتيجية، بالنسبة للولايات المتحدة، فقد تعلمت من درسي تونس ومصر وانحازت مبكراً للشعب، ولكنها ترددت في قيادة العمليات العسكرية ما لم يتشكل تحالف عربي- دولي، بالتعاون مع الليبيين وجامعة الدول العربية وحلفاء واشنطن الأوروبيين، ويُصدر قراراً من مجلس الأمن يطالب ويعطي شرعية بالتدخل الذي سلمت قيادته لحلف شمال الأطلسي. أما في الحالة اليمنية، فالتردد سيد الموقف، ويبدو أن سببه المخاوف من تشظي اليمن، وأثر ذلك على نشاط تنظيم "القاعدة". ولذلك ثمة تقارير، مفادها أن الولايات المتحدة وأوروبا طالبوا دول مجلس التعاون الخليجي بدعم ومساعدة اليمن، وحتى بعض التقارير تقول بأن أميركا طلبت من دول المجلس بضم اليمن. وخلال الآونة الأخيرة، لم تغير واشنطن من موقفها من الرئيس اليمني وتطالبه بالرحيل، كما كشفت صحيفة "نيويورك تايمز"، إلا مؤخراً بالرغم من المجازر والتجاوزات التي يرتكبها نظامه. وفي الحالة السورية حتى اليوم لا يوجد أي موقف واضح لواشنطن التي عينت سفيراً في دمشق بالرغم من معارضة الكونجرس، ولا يتعدى الموقف الأميركي سوى انتقاد العنف ضد المدنيين. وكانت كلينتون قد أوضحت أن التدخل العسكري الدولي والعربي في ليبيا ليس معياراً سيعمم أو سيتكرر في حالات أخرى. وفي المجمل، نستطيع أن نرى نهجاً أميركياً واضحاً يقدم المصالح والاستقرار والأمن أولاً على الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية والمساءلة، وذلك يبقى كما كان شعارات ومطالب لا تعني الكثير. لقد آن الأوان للولايات المتحدة في ظل التغيرات الكبيرة ووعي الجماهير والشباب خاصة المثقف والمطلع والمتابع أن يقنع واشنطن بتغيير سياستها، التي لم يتثبت نجاحها. حتى لا يأتي وزير خارجية آخر بعد عقود من اليوم ليكرر على أولادنا بأن الولايات المتحدة قايضت الديمقراطية والحريات مقابل الأمن والاستقرار خلال الستين عاماً الماضية، وأننا فشلنا في تحقيق أي منهما! فهل هناك استيعاب للدرس؟!