هل سيتمكن العرب من تكوين ديمقراطيات حقيقية؟ هذا سؤال كثيراً ما يتم طرحه هذه الأيام. وبعد مجادلات مع الذين يوجهون إليًّ هذا السؤال، توصلت إلى خلاصة مفادها أنهم عندما يوجهون هذا السؤال، يكون لديهم في أعماق تفكيرهم رؤى مسبقة عما تكون عليه الديمقراطية الحقيقية وفهم ساذج نسبياً، لا تاريخياً حول الطريقة التي نشأت بها الديمقراطيات والطريقة، التي تطورت بها وتعمل بها في الواقع يمكن بيانها كما يلي: أولا، الديمقراطيات تعني ما هو أكثر من الانتخابات علاوة على أن الانتخابات الأولى ليست هي التي تهم، وإنما الثانية والتي تليها والتي تليها. في عام 1993، دُعيت لليمن لإلقاء محاضرات عن الديمقراطية والانتخابات، وكانت البلاد في ذلك الوقت على وشك عقد أول انتخابات برلمانية بعد التوحيد وكان الجو ملبداً بالتوقعات السياسية تماماً مثلما أن الحوائط كانت مغطاة بالملصقات التي تعكس تلك التوقعات. وعندما زرت المقار الرئيسية للأحزاب المتنافسة في ذلك الوقت، واستمعت منهم عن الاستراتيجيات التي ينوون اتباعها في الانتخابات، وتلك التي سيتبعونها إذا فازوا في الانتخابات والتي تتعلق بمستقبل البلاد كما استمعت إلى شكاواهم بشأن العملية الانتخابية برمتها ومنها على سبيل المثال أن أنصار الحزب الحاكم كانوا ينزعون الملصقات الخاصة بمرشحي الأحزاب الأخرى، أو أنهم يدفعون رشاوى للناس لدفعهم للتصويت للحزب. ونظراً لأني كنت منخرطاً في السياسة والانتخابات منذ نعومة أظفاري، لم يكن ما قالوه جديداً بالنسبة لي حيث كنت أعرف أن مثله يحدث في الولايات المتحدة وأن حزبنا الديمقراطي قد تعرض له كثيراً في الانتخابات، التي كانت قد جرت في العام السابق. بسبب هذه الملاحظات تعرضت للانتقاد من موظف في وزارة الخارجية الأميركية كان موجوداً عندما أدليت بها، وهو ما رفضته قائلاً له إنني لا أستطيع أن أتظاهر بأن ديمقراطية الولايات المتحدة تخلو تماماً من العيوب، لأن تصوير أنفسنا على أننا أرفع قدراً في الديمقراطية عما نحن عليه بالفعل ليس فعلًا زائفاً فحسب، وإنما يضع السقف عالياً جداً، وأعلى من قدرة أي أحد على الوصول. في الانتخابات التي جرت في اليمن بعد ذلك، أصبح النظام الانتخابي أقل انفتاحاً عما كان عليه في المرة الأولى، وهو ما قوض ثقتنا في العملية السياسية في ذلك البلد بشكل عام والعملية الانتخابية بشكل خاص. ثانياً، الديمقراطيات لا تولد من فراغ، وإنما تتكون تدريجياً بمرور الوقت: في بداية الولاية الأولى للرئيس الأسبق بيل كلينتون، دعيت لدار الوثائق الوطنية لسماع خطاب من الرئيس عن خططه " لإصلاح" وليس "لإنهاء" نهجنا الإيجابي في التعامل في مجال السياسة الخارجية، وعندما وصلت إلى الدار ذات البناء الفاخر والمظهر الباذخ، قرأت على جدرانها مقتطفات من أقوال الأباء المؤسسين للولايات المتحدة، والذين كانوا كلهم من البيض ومن كبار الملاك والرأسماليين ومن يقتنون العبيد، كانت العبارات رائعة ومحكمة، ولكن راودني سؤال: هل كان هؤلاء الآباء يدركون حينما قالوا تلك الأقوال المأثورة أن الديمقراطية التي خططوا لها في الولايات المتحدة سوف تمضي على النحو الذي خططوا له. علينا أن نتذكر أن الديمقراطية لم تكن في تطورها بالعظمة التي صورتها تلك الشخصيات العظيمة، وأن معظم الامتيازات كانت للبيض الأثرياء وليس البيض في عمومهم، في حين حرم منها السود، وأن الأمر قد استغرق سبعة عقود كاملة حتى تمكنت البلاد من إلغاء الرق على يدي إبراهام لنكولن، وستة عقود بعد ذلك التاريخ لمنح المرأة حقوقها المشروعة، وزمنا أطول بكثير لمنح الأميركيين من أصل أفريقي (بعد أن كان يطلق عليهم الزنوج)، كافة المزايا والحقوق التي كان يحظى بها البيض في شتى المجالات. واستطيع في هذا المقام أن أسرد العديد من أمثلة المعاملة التميزية والعقبات الكؤود، التي عاني منها الأميركيون من أصل أفريقي حتى بعد أن حصلوا على حقوقهم في التصويت، وكذلك العديد من الأمثلة على السياسات الاستئصالية المخجلة التي عانى منها سكان الولايات المتحدة الأصليون من الهنود الحمر، والعديد من الأمثلة على المؤامرات القذرة التي استخدمت لإرهاب الأميركيين من أصل لاتيني لمنعهم من الخروج بأعداد كبيرة للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات لتقديم نماذج تثبت أن ديمقراطيتنا لم تبدأ كديمقراطية خالية من العيوب، وإنما كان بها من العيوب الكثير، ولكن من المهم جداً لنا أيضاً، أن نتذكر كيف نمت تلك الديمقراطية وتوسعت تدريجياً. والأمر لا يقتصر على الماضي، فلا زلنا حتى اليوم نواجه تحديات تؤثر على ديمقراطيتنا، وتستدعي منا الكثير من الجهود والعمل الشاق في الوطن. لذلك فإننا قبل أن نفكر في التفلسف وإعطاء الدروس للآخرين بشأن الديمقراطية وقبل أن نحكم مسبقاً على ديمقراطية الآخرين، علينا أن نتحلى بقدر كبير من التواضع، وأن نحاول قراءة صفحات التاريخ لاستخلاص العبر ومعرفة التطور التاريخي لديمقراطيتنا. ثالثا، أفكار ختامية: بعد كل ذلك هناك ملاحظتان يتعين عليّ الإدلاء بهما هما:الملاحظة الأولى: في حين أن شكل وإيقاع الديمقراطيات الجديدة، التي قد تبرز في البلاد العربية سوف يختلف طبقاً لعادات وتقاليد كل دولة، فإن الاختبار الخاص بحيوية تلك الديمقراطيات وسلامتها سوف يكمن في قدرتها على تصحيح نفسها، وقدرتها على التغير والتوسع أيضاً. الملاحظة الثانية: في حين أن الانتخابات والمشاركة الديمقراطية أمران مهمان، إلا أنه من المهم أيضاً بالنسبة للحكومات أن تحترم الحقوق الإنسانية لمواطنيها وحرياتهم الأساسية، فإذا فعلت الديمقراطيات الجديدة ذلك، فإنها ستمضي قدماً في مشروعها الديمقراطي كما مضينا قدماً في مشروعنا الديمقراطي...أما الباقي فسوف يسلتزم عملاً شاقاً. وإن كان الأمر يتمنى ألا يستغرق ذلك قروناً كما حدث معنا.