جلب التغير الذي يجتاح العالم العربي إلى الواجهة سجالاً يعود للأيام الأولى من نشأة جمهوريتنا الأميركية. هذا السجال يمكن التعبير عنه بالسؤال: هل يمكن استخدام الجيش الأميركي لأسباب مثالية أم كتعبير عن مصلحة قومية حيوية، أم للسببين معاً؟ ونظراً لأننا خدمنا أربعة رؤساء أميركيين خلال تشكيلة متنوعة من الأزمات الدولية، فإننا نرى أن المفاضلة بين "المثالية" و"الواقعية" هي تعبير عن خيار زائف. فكما أن الأمر يحتاج إلى التمسك بالمُثل في الظروف الواقعية، فإن الواقعية ذاتها تتطلب سياقاً يمكن فيه لقيمنا الوطنية أن تصبح ذات معنى. والفصل بين الاثنين، "المثالية" و"الواقعية"، يعرضنا لمخاطر بناء السياسة على رمال متحركة. وكشأن معظم الأميركيين، نؤمن سوياً بأن أميركا يجب دائماً أن تدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، تماماً مثلما دعمنا الديمقراطية ودافعنا عن حريات الشعوب المستلبة للسوفييت إبان الحرب الباردة. وقيمنا تحتم علينا رفع المعاناة الإنسانية، لكن قيام بلادنا بذلك عسكرياً لا يجب أن يحدث إلا في الحالة التي تتعرض فيها مصالحنا القومية أيضاً للخطر. ويمكن أن نطلق على هذا النهج اسماً ملائماً هو "المثالية البراجماتية". وليبيا، كما نرى، تمثل استثناءً من هذه القاعدة. فرغم أنه لا توجد لدى الولايات المتحدة مصالح قومية مهددة في ليبيا، فإن قيامها بتدخل عسكري محدود لأسباب إنسانية أمر يمكن تبريره. فقوات القذافي ألحقت خسائر فادحة بالمدنيين وكانت على وشك الاستيلاء على مدينة بنغازي، مع ما كان سيترتب على ذلك من نتائج كارثية لسكانها. يضاف لذلك أن كلاً من مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية دعيا إلى العمل العسكري لإنقاذ المدنيين الليبيين. على أن "أهدافنا المثالية" يجب ألا تكون هي الدافع الوحيد لاستخدام القوة في سياق السياسة الخارجية. فنحن لا نستطيع لعب دور شرطي العالم، كما لا يمكننا استخدام القوة في كل تحد يبرز أمامنا، لكن علينا أن نعرف أين سنقف؛ هل عند حدود ليبيا أم سوريا أم اليمن أم الجزائر أم إيران؟ وماذا عن الدول التي كانت حليفة لنا ومع ذلك لم تكن تتبنى قيمنا؟ وماذا عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلد مثل ساحل العاج؟ للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها نقدم هنا بعض الخطوط الإرشادية: أولاً، عند التفكير في استخدام القوة يجب أن نحدد هدفاً واضحاً لهذا الاستخدام. هل هو حماية المدنيين أم تغيير الأنظمة، أم بناء الأمم. وعندما نحدد كل هدف يجب أن نخصص له الموارد المناسبة له، فالموارد اللازمة لهدف حماية السكان المدنيين من عسف الأنظمة يختلف جد الاختلاف عن هدف تغيير تلك الأنظمة، لأننا إذا لم نفعل ذلك فسوف نفشل في تحقيق الهدف، وقد يطول أمد المهمة وقد يؤدي ذلك لحدوث انقسام مع حلفائنا الذين يشاركوننا هذه المهام، وقد يؤدي أيضاً إلى نكسة استراتيجية. ثانياً، يجب علينا أن ندرس الظروف السائدة في كل بلد وأن نحاول الربط بين ظروفه وثقافته وتاريخه وبين مصالحنا الاستراتيجية والاقتصادية. وهذا الشيء سوف يمكننا من تحليل الدوافع وراء خروج المظاهرات الحاشدة، ويساعدنا على تطوير استجابات ملائمة لكل واحدة منها. ثالثاً: يجب أن نعرف من هي الجهة التي نقدم لها المساعدة وما هي نوعيتها. في الحالة الليبية يجب أن نعترف أننا قد وقفنا إلى جانب طرف معين في حرب أهلية. لكن يجب علينا في هذا السياق ألا نكتفي فقط بمعارضة طاغية وإنما أن نتأكد أن من سيأتي بعده لن يخلق مشاكله الخاصة الكبيرة. لذلك من المهم أن نطور مفهوماً لتحقيق الأمن في البلد الذي نحدث فيه تغييراً للنظام؛ ذلك أن آخر ما نحتاجه في هذه المنطقة هو أن نجد أمامنا سلسلة من الدول الفاشلة. رابعاً: يجب أن يكون هناك دعم محلي داخل الولايات المتحدة لتدخلنا العسكري في أي بلد، وهو ما يتم عادة من خلال دعم يقدمه الكونجرس. وتنفيذ أي سياسة خارجية من دون هذا الدعم سوف يكون أمراً في غاية الصعوبة في المدى القصير، وغير قابل للإدامة في المدى الطويل. خامساً: يجب علينا أن نفكر في النتائج غير المقصودة التي يمكن أن تترتب على تدخلنا العسكري. ففي الحالة الليبية لا يجب علينا أن نفكر فقط في حماية المدنيين من بطش القذافي، وإنما يجب علينا أن نضع في اعتبارنا أيضاً كيف نحمي المدنيين الموالين للقذافي من الفظائع التي يمكن أن يتعرضوا لها على أيدي قوات المتمردين. من ضمن النتائج غير المتوقعة للأزمة الليبية أن بعض الدول قد تفكر، بسبب تداعيات تلك الأزمة، في الإسراع بخطى تطوير برامجها النووية خصوصاً إذا ما تذكروا أن القذافي كان قد تخلى في مرحلة سابقة عن برنامجه النووي في سبيل تحقيق علاقات أكثر تقارباً مع الغرب. ويجب في جميع الأحوال أن تظل الدول المارقة على اقتناع بأننا عاقدون العزم على مقاومة كافة محاولات الانتشار النووي. سادساً: والأهم على الإطلاق، يجب على الولايات المتحدة تطوير فهم حازم لمصالحنا القومية الاستراتيجية. فليس لكل هبّات العالم العربي أصل واحد، كما أنه ليس لها نفس العلاج. فالربيع العربي يمكن أن يمثل فرصة عظيمة لشعوب المنطقة والعالم أجمع، ذلك لأن دعم ومساندة الديمقراطية يمكن أن يقدم مع مرور الأيام بديلاً لتيار التطرف الإسلامي، كما أنه يمكن، في المدى القصير على وجه الخصوص أن يؤدي لتقوية بعض أنصار هذا التيار. يجب علينا أن نطور مفهوماً لما هو قابل للإنجاز وفي أي إطار زمني. وعلى الولايات المتحدة أن تسعى لسياسة تقرن ما بين تصميمنا على حماية مصالحنا القومية من ناحية، وترويج القيم التي جعلت أمتنا عظيمة من ناحية أخرى. وهذه السياسة القائمة على "المثالية البراجماتية" هي السياسة التي تقدم أفضل طريقة لمواجهة التحديات والفرص المرتبطة بهذا التحول الهائل الذي يحدث في العالم الإسلامي حالياً. هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية بين عامي 1973 و1977 جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركية بين عامي 1989 و1992 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"