مازال الوطن العربي تحت وقع الثورات الأخيرة فيه بهذه السرعة بعد انتظار طويل، ونجاح البعض منها، تونس ومصر بأقل عدد ممكن من الشهداء بالمئات، وبأسلوب متحضر للقادة والشعب. ومازال العالم مشدوهاً من هذه الثورات الشعبية السليمة التي استطاعت تغيير نظم حكم دامت عدة عقود ومازالت مستمرة. ولم تنفع في زحزحتها حركات المعارضة. يتعلم منها الطلاب في المدارس مع الثورات الفرنسية والأميركية والروسية والثورات الأخيرة في أوروبا الشرقية التي أسقطت نظماً شبيهة حتى وصلت إلى قلب الاتحاد السوفييتي ذاته. ومازالت دائرة في ليبيا واليمن على نحو آخر، أكثر عنفاً، واحتكاماً إلى السلاح. ومازالت حثيثة في الجزائر والعراق ولبنان وموريتانيا وأخيراً سوريا. وبقت السودان بعد انفصال الجنوب والمخاطر المحدقة بدارفور ووحدة شعب السودان. وقد قامت الجمهوريات إثر حركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات. وتحول الزعيم إلى حاكم مطلق باسم الديموقراطية الشعبية، والزعامة التي تجب المؤسسات. تحولت إلى غرور وتأله وإلى رئاسة مدى الحياة له. وعم الفساد دون رقابة من مؤسسات تشريعية أو قضائية. وحكم الرئيس بدائرة صغيرة حوله من العائلة أو الصحبة أو رجال الأعمال. وتحالف مع الخارج تدعيماً لسلطانه بعد أن فقد جذوره الشعبية، وأصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم. واحتاجت الشعوب إلى حركة تحرر أخرى، من الداخل وليس من الخارج، من الصديق وليس من العدو. ولدى بعض الشعوب، التي كانت الملكيات جزءاً من تاريخها. يصعب فيها إسقاط النظام كما كان الحال في انقلابات الخمسينيات والستينيات في مصر والعراق واليمن وليبيا. ومع ذلك امتدت إليها شرارة الثورة عن طريق المطالبة بالدستور من أجل ملكيات دستورية ترعى حق الشعب، وتقلل من سلطات الملك. الدستور هو الذي يحدد الحقوق والواجبات لكل من الحاكم والمحكوم. وهو ما سُمي في لغتنا القديمة الشريعة. ومنها إطلاق حرية تكوين الأحزاب التي تعبر عن مختلف الاتجاهات والآراء والاجتهادات. فالسياسة لا تجتمع على رأي واحد. بل هي بطبيعتها متعددة الآراء. ومنها أيضاً حرية تكوين منظمات المجتمع المدني مثل منظمات حقوق الإنسان والمرأة والطفل والعمال والفلاحين، وحرية تكوين النقابات والاتحادات الطلابية والمهنية، ورفع الرقابة على المطبوعات، ووقف المصادرات للكتب تعبيراً عن حرية الرأي، وإطلاق الاجتهاد الذي توقف بعد شيوع التقليد وكأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. وإذا كان الدين مازال هو الغالب على الثقافة الشعبية، وهو الوافد الرئيسي فيها مع الشعر والأمثال العامية فإنه من الطبيعي أن يبدأ الإصلاح من الدين، وجعله حاملاً لمطالب الناس. الدين تعبير عن حاجات المحرومين والمهمشين والمضطهدين والمظلومين. يعبر عن تطلعهم للتغير الاجتماعي. وهم أول من انضموا إلى الرسول في دعوته في حين عاداه الأغنياء وأشراف قريش. تعددية التفسير الديني طبقاً لمصالح الناس هو الطريق للإصلاح، فقهاء الشعب في مواجهة فقهاء السلطان، علماء التجديد في مواجهة علماء التقليد، المعبرون عن الواقع أمام مفسري النصوص. لذلك تستحيل الثورات العلمانية، قومية أو ليبرالية أو اشتراكية في المجتمعات التقليدية التي مازال الدين يكوّن الرافد الرئيسي في ثقافتها الشعبية. تتحقق الثورة في النظم المحافظة تدريجياً عن طريق حركات الإصلاح والتغير الاجتماعي كما حدث في الدولة العثمانية قبل أن يستولى حزب "الاتحاد والترقي" على الحكم باسم العلمانية الغربية على يد مصطفى كمال. فقد كان الإصلاح الذي مثله الأفغاني هو الطريق للتحول من القديم إلى الجديد، ومن المحافظة إلى الحرية. إن كل نضال من أجل تخفيف قبضة الأمن، وإطلاق المعتقلين السياسيين هو خطوة نحو الثورة. وكل محاولة لوضع مؤسسات مستقلة تعبر عن مصلحة الشعب أكثر مما تعبر عن إرادة الحاكم هو عمل ثوري في مجتمع تقليدي. وكل مناداة بأن يكون ممثلو الشعب، مجلس الشورى، بالانتخاب وليس بالتعيين هو تحقيق لإرادة الثورة في مجتمع أبوي يرى أن كل شيء يتم بإرادة الحاكم. والعمل السياسي العلني خطوة نحو الثورة. يسمح بالتعبير عن الرأي والحوار الوطني العام على صفحات الجرائد وفي شتى أجهزة الإعلام وليس في الغرف المغلقة. يحمي من العمل السري الذي قد يتحول شيئاً فشيئاً من طول الكبت إلى ممارسة للعنف. فاليد بديل عن اللسان. ويعلم الناس الشجاعة وعدم الخوف. فالتعبير العلني عن الرأي حق طبيعي لا مواربة فيه ولا التفاف من الباب الخلفي أو من الدهليز السري. فالفرد له حقوق قبل أن يكون عليه واجبات. وكل واجب يقابله حق. فلا واجب دون حق. الإصلاح في المجتمعات المحافظة ثورة تدريجية، وانتقال طبيعي من الماضي إلى الحاضر، ومن القديم إلى الجديد. وقد دار نقاش في الستينيات في المجتمعات النامية في العالم الثالث: هل يمكن حرق المراحل؟ هل يمكن الانتقال من الإقطاع إلى الاشتراكية دون المرور بمرحلة متوسطة، الاشتراكية الليبرالية؟ هل يمكن الانتقال من النخبة إلى الجماهير دون المرور بمرحلة متوسطة، البرجوازية الوطنية؟ وقد كانت نتيجة هذا الانتقال دون مرحلة متوسطة أن غابت الحرية، وتحولت الاشتراكية إلى ديكتاتورية الإقطاع. ثم انهارت النظم الاشتراكية بعد ما يقرب من ستين عاما هو أيضا عمر الثورة العربية مطالبة بالحرية. فالحرية قبل الخبز بعد أن كان الشعار الخبز قبل الحرية. وعلى هذا النحو ينتهي العنف من المجتمعات المحافظة. كما ينتهي العنف المضاد. ينتهي هذا الجدل المستمر بين عنف الدولة وعنف جماعات المعارضة لصالح الرأي والرأي الآخر، والحوار الوطني بين الفرقاء دون تكفير أو تخوين. التغير الاجتماعي أو الإصلاح يحمي من الانقلاب المفاجئ والانقلاب المضاد. فالانقلاب ليس ثورة بل هو بقاء على النظام القديم بخطاب جديد. وهو تطور طبيعي للمجتمعات مثل الثورة التي تحل محل الإصلاح عندما يبتلعه النظام القديم ويتجاوزه المجتمع. الدين النصيحة. يسبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كلمة حق، شهادة بالقول، وأمانة العالم. يحرص على وحدة الأمة، وإجراء التغير من خلال التواصل. يريد التحول السلمي حماية للمجتمع من الانشقاقات والهزات التي قد تسيل فيها الدماء، تنجح أو تفشل. وكما تم الخلق أطواراً فكذلك تحدث الثورة في المجتمعات المحافظة أطواراً. المهم أنها لن تتأثر الثورة التي تهب على المجتمع العربي، ولكنها تتكيف معها، وتصوغ نموذجها، وتحدد طبيعة مرحلتها التاريخية. فالوطن العربي ينتقل بأكمله إلى عصر الشعوب.