قام (تيري جونز) في الأسبوع قبل الماضي بحرق نسخ من القرآن الكريم في كنيسته في مدينة (جينزفيل)، بولاية فلوريدا. ولم يسمع غالبية المسلمين بهذا العمل القبيح إلا بعد أسبوع من حدوثه بسبب تركيز معظم وسائل الإعلام أخبارها على الانتفاضات والاحتجاجات العربية. ولكن حين سمع أهل أفغانستان بذلك، قاموا بمهاجمة بعثة الأمم المتحدة في مدينة (مزار شريف) شمال أفغانستان، وقتلوا عشرة من موظفي الأمم المتحدة، كما قام بعض المتظاهرين الإندونيسيين بامتهان الإنجيل كرد فعل لما قام به المهووس "جونز" وأتباعه. والحقيقة أنّ ما قام به "جونز" لا يُمثّل المسيحية ولا المسيحيين، فالديانة المسيحية مثلها مثل بقية الأديان الأخرى تدعو إلى التسامح، ونبذ العنف ولكن "جونز" رجل عنيف، اتّخذ من الكنيسة منبرًا لبثّ الكراهية والعداء ضد الإسلام والمسلمين والمصحف الشريف. وهو قد اتّخذ من ذلك منهجاً حتى يتمكّن من تسليط الأضواء على نفسه المريضة، والحصول على تغطيةٍ إعلاميةٍ متواصلة. والحقيقة أنه لا يمكن للمرء إلا إن يدين هذه الأعمال الحقيرة، كما يدين أعمال قتل عمّال وموظفي الإغاثة الدوليين في مزار شريف، وامتهان الإنجيل. فلا يمكن أن نقابل السوء بالسوء، ولا تسمح لنا ديانتنا بامتهان أي كتاب مقدسّ حتى لو لم نؤمن به. غير أنّ مجلس الأمن يحمل وزر عدم تنفيذ عدد من القرارات والجلسات الخاصة التي اتّخذتها الجمعية العامة بحق الاساءة الى الأديان، ومن أهمها قرارها (رقم 62/54 العام 2009م). والذي يطلب فيه من الدول الأعضاء تجريم التجريح الديني والإساءة إلى القيم والمُثل والشخصيات الدينية، بما في ذلك القيم الدينية الإسلامية. وقد ركّز مجلس الأمن تاريخياً معظم اهتماماته على العمليات العسكرية، والتخفيف من الاحتقانات والمواجهات الدامية بين الدول، وهو ما يدعو إليه ميثاق الأمم المتحدة. غير أنّ نفس الميثاق ينصّ على حفظ السلام بكل الطرق الممكنة، بما في ذلك معالجة الأسباب الفكرية والإيديولوجية التي تحضّ على الكراهية. ونحن نعيش اليوم في عصر يشبه الثلاثينيات، حين كان استهداف الأقليات غير المسيحية مقبولاً به في البلدان الأوروبية. ونعرف تماماً كيف قادت تلك الإيديولوجيات العنيفة، مثل النازية والفاشية، إلى المآسي والمذابح التي حدثت في الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب وإلى اليوم، فإن الأحزاب النازية والفاشية ونشر إيديولوجياتها ونظرياتها يُعتبر أمراً منافياً للقوانين السارية، إيماناً من هذه البلدان أنّ مثل هذه الإيديولوجيات ما هي إلا مطيّة يركبها المتطرّفون والمهووسون لمحاربة فئة معينة داخل بلدانهم على أساس ديني أو عرقي. ونرى اليوم أن المُثل الإسلامية والمقدسات يُستهان بها في شتّى بقاع العالم، فقرآن المسلمين يُحرق، ورسولهم يُصوَّر بشكلٍ مقزز في الرسومات الكاريكاتورية، ويحدث ذلك دون أي مساءلة أو عقاب. كما يتحجج بعض الأشخاص العنصريين من أن مثل هذه الأعمال تُعدّ "حرية" للتعبير التي لا يحق لأي فرد منعها أو الاعتراض عليها. علماً بأن نفس هذه القوانين تقول بأن أي وسيلة فكرية تقود إلى التحريض على عمل عنيف، تُعدّ مقدمة للأعمال العنيفة، وبالتالي فهي محرّمة قانونًا. غير أنّ (جونز) وأتباعه والرسام الهولندي سيئ الذكر، كلهم يتمتعون بحماية رسمية دعماً لحقهم المزعوم في حرية الرأي والنشر. وأستغرب كل الاستغراب من السماح لمثل هؤلاء الموتورين بالقيام بأعمالهم، بينما خشي (أسانج) وزملاؤه من ناشري وثائق "ويكيليكس" من أنّ نشرهم لوثائق سرية إسرائيلية من شأنه أن يجرّ عليهم قضايا جنائية في معظم البلدان الأوروبية، تحت طائلة "معاداة الساميّة". ومثل هذا الخوف من قِبل صحفيين عاديين، قادهم إلى تجاهل تلك الوثائق التي تدين أغلبها الحكومة الإسرائيلية. وربما كان تخوّف (أسانج) وزملائه، نابعاً أيضاً من تهديد إسرائيلي بتصفية جسدية. والحقيقة أنّ العنف المُبرمج لا يبدأ بشكلٍ عفوي، بل هو نتيجة عمليات أدلجة وتغيير في المفاهيم والقيم، وتلعب وسائل الإعلام الحديثة من تلفزة وإنترنت دوراً مهماً في صياغة رأي عام عالمي حول مواضيع معيّنة. وحين حصلت أحداث أفغانستان في الماضي، امتلأت أعمدة التعليقات على الإنترنت بسيل عارم من الشتائم والإهانات، ليس فقط ضد الإسلام، ولكن ضد كتاب الله المقدّس القرآن الكريم. لذلك، فإنّ على المؤسسات السياسية في العالم، بما فيها مجلس الأمن، والجمعية العامة، وغيرها من المؤسسات السياسية قبل الثقافية، أن تتخذ إجراءات مدروسة لحثّ جميع الدول على الالتزام بعدم التعرّض للقيم والأديان السماوية، وأن لا تصبح مثل هذه الإجراءات حبراً على ورق، بل تتم منهجتها في قوانين محلّية وتشريعات مُلزِمة. وخلال العشرة أعوام الماضية، شهدنا حروباً ساخنة تُشنّ على العالم الإسلامي، ويؤدلج لها بشكلٍ علمي ومُبرمج من كراهية وعداء عميق تنشره المحطات الدينية، وتعصف به المواقع السياسية، وكل ذلك من شأنه أن يجعل العرب والمسلمين "يهود" القرن الحادي والعشرين، من حيث سوء المعاملة والاحتقار والتمييز الديني الذي عانى منه اليهود في أوروبا خلال القرون الماضية. ولن يقوم للحضارة البشرية عمار إلا بالتعايش والمحبة والوسطية، ونبذ كل ما من شأنه تعميق الأحقاد والضغائن بين البشر. ولن ينجح ذلك في وقف الحروب والصراعات، ولكنه سيحرم الساسة والمتصارعين من وقود يُحرّض على الصراع الدائم والمواجهات العرقية. مجلس الأمن والأمم المتحدة هما المنبران العالميان المناط بهما حفظ السلام والأمن الدوليين، وتكاد الكراهية ضد المسلمين أن تعصف بالكثير من الركائز والأسس الفكرية للمجتمعات الغربية الحديثة. ومثل هذا الانحياز لن يكون حصرًا على المسلمين، سواءً منهم من عاش في بلاد الغربة، أو ممن يعيشون في بلادهم الأصلية. وإذا ما رغبنا أن نعيش ويعيش أبناؤنا في سلام وأمان، فإن علينا المحافظة على قيم التسامح والعيش المشترك، والقبول بالآخر ممن لا تربطنا به صلات دينية واحدة. وإذا ما اندثرت هذه القيم، فإن مصير البشر صراع لا نهاية له.