يصعب القول إنّ ماركس مسؤول عن ستالين وبول بوت وجرائمهما لمجرّد أنّ الأخيرين نسبا نفسيهما إلى الماركسيّة. فالحكم المنصف على الديكتاتورين، السوفييتيّ والكمبوديّ، وعلى ديكتاتوريّين كثيرين غيرهما، ينبع من عناصر عدّة مثل درجة تطوّر المجتمع المعنيّ، ونمطه الثقافي السائد، والتجربة التاريخيّة التي عاناها حزب ذاك الزعيم، فضلاً عن تكوينه النفسيّ. لكنْ في الحالات كافّة، تبقى هناك مسؤوليّة لماركس الذي قدّم الغطاء الفكريّ والأيديولوجيّ المحترم لأعمال غير محترمة بالمرّة، أو على الأقلّ، قدّم الذريعة التي يحتاجها عمل يعوزه الكثير من الذرائع. ولقائل أن يقول: ما ذنب ماركس، الذي مات قبل ولادة ستالين وبوت، إن اعتمداه مرجعاً لهما أو ذريعةً لأعمالهما الدمويّة؟ لكنّ الحجّة هذه تغفل مسألة القابليّة، أي قابليّة الفكر لأن يُستعمل ولأن يُتَذرّع به. ذاك أنّ فكراً يمجّد العنف والتغيير بالقوّة ويجعل منهما إحدى قاطرات التاريخ والتقدّم، يمكن أن ينحطّ عمليّاً على يد ديكتاتور قاتل يقدّم قتله كخدمة للتاريخ والتقدّم! على أيّة حال، وللوهلة الأولى، يبدو أنّ تلك المسؤوليّة تتضاعف في حالة عبد الناصر و"تلميذه" القذّافي. فستالين وبوت لم يعرفا ماركس، فيما عاش القذّافي زمن عبد الناصر وعرفه في السنتين الأخيرتين من حياته، وهذا يضاف إلى الصلة التي أنشأها الجوار الجغرافيّ بين مصر وليبيا، فضلاً عن الاشتراك في لغة واحدة وبعض الرموز المشتركة. هكذا نقرأ سلوك القذّافي منذ كان طالباً صغيراً يتظاهر تأييداً لمصر في العدوان الثلاثي عام 1956. فهو بعد تخرّجه برتبة ملازم من الكليّة الحربيّة في 1963، قلّد الزعيم المصريّ خطوة خطوة. فمثل عبد الناصر الذي انتسب إلى أحزاب عدّة قبل أن يكتشف "عقمها"، انتمى القذافي إلى جماعات إسلاميّة في مدينة سبها، كما غازل "البعث"، وتقرّب من حركة القوميّين العرب، ليكتشف أنّها تنظيمات لا تسمن ولا تغني من جوع. وهذه الأحزاب، ومعها جماعة "الإخوان المسلمين"، كانت موجودة بين الشبيبة وصغار الضبّاط، من غير أن تحظى بشرعيّة العمل الحزبيّ. لكنّ نظام إدريس كان أبويّاً بالمعنى الإيجابيّ للكلمة، كما كان أبويّاً بالمعنى السلبيّ. هكذا تصرف مع هؤلاء الشبّان بوصفهم طائشين ومراهقين ينبغي ألاّ يُعاملوا بالقسوة. ثمّ أنشأ القذّافي، كما فعل عبد الناصر، تنظيماً سمّاه "الضبّاط الأحرار"، كان من أوائل من انضمّوا إليه عبد المنعم الهوني وعبد السلام جلّود وأبو بكر يونس الذين رافقوه طويلاً في رحلته بعد الاستيلاء على السلطة. ومثل عبد الناصر أيضاً، كانت شروط الانتساب التي وضعها للتنظيم، أخلاقيّة تستجيب لمعايير محددة. فـ"الضابط الحرّ" ينبغي، فضلاً عن الانضباط والجدّيّة، أن يصلّي وألاّ يشرب. ومثل الزعيم المصريّ، فضّل القذّافي أبناء العائلات المتواضعة من العسكريّين، لا أولئك الذين ورثوا عن مواقعهم الاجتماعيّة شيئاً من الاعتداد الذي لم يُطقه إحساس القذّافي المتضخّم بالعظمة. وكما سمّى عبد الناصر نفسه، بعد انقلاب يوليو 1952، رئيس حكومة، تاركاً رئاسة الجمهوريّة لمحمّد نجيب، فعل القذّافي الشيء نفسه من دون أن يكون هناك محمّد نجيب ليبيّ. ومثل عبد الناصر، حرص القذافي على احتكار اتّصالات التنظيم بالأطراف الأخرى وحواراته مع تنظيمات منافسة في الجيش، ومثله كان يشدّد على ألاّ يراق دم في الانقلاب. وبالفعل حدث الانقلاب بلا دم، سيّما وأنّ الملك إدريس كان خارج البلاد يومها، وهو لم يدعُ مناصريه إلى مقاومة الوضع الجديد. وكما أقام عبد الناصر جمهوريّة على أنقاض الملكيّة، أعلن القذّافي ولادة الجمهوريّة العربيّة الليبيّة" على أنقاض الملكيّة السنوسيّة التي تساوى قيامها مع قيام ليبيا الحديثة. وأغلب الظنّ أنّ ولع القذّافي بالمجد الذي يحتقر الأُطُر والمراتب، ما حمله على عدم السعي وراء ترقية عسكريّة بعد الوصول إلى السلطة. ومعروف أنّ عبد الناصر كفّ، بعد انقلابه، عن أن يكون عسكريّاً، أمّا "تلميذه" ومقلّده فاكتفى بلقب "عقيد" الذي بات يُستخدم استخداماً احتفاليّاً فحسب. وإذا صحّ أنّ عبد الناصر كان يستاء من بعض سلوك القذّافي النافر والناشز، ومن غرابات أطواره، وأنّه كان يهدّئه في لحظات غضبه، فهذا لا ينفي قوله له مرّة: "أنت تذكّرني بشبابي يا معمّر"، وأنّه مرّة أخرى سمّاه "أمين القوميّة العربيّة". فالزعيم المصريّ ما كان يسعه التبرّؤ من تلميذ ومقلّد، فضلاً عن شعوره بالعرفان للعقيد الذي أغلق قاعدة ويلّس الأميركيّة وأبدى استعداده لوضع عائدات النفط الليبيّ تحت تصرّف القاهرة. ولا ننسى أنّ عبد الناصر كان يومذاك خارجاً للتوّ من هزيمة 1967 التي هزّت زعامته وفاقمت فقر مصر وأبانت ضعفها. وفي جردة حساب إجماليّة ربّما كانت المسؤوليّة الأكبر التي يتحمّلها الزعيم المصريّ أنّ دعوته الوحدويّة وما جرّته له من شعبيّة شكّلت الهدف الأوّل والإغراء الأوّل اللذين اتّجه إليهما طموح القذّافي وعُظامه. فالزعيم الشابّ الذي اعتبر ليبيا أصغر منه، ما لبث أن أصبح داعية للوحدة العربيّة الكبرى، بل يمكن القول إنّ العروبة الوحدويّة كانت التمرين الأوّل على العظمة عند القذّافي. على أنّ رحيل عبد الناصر حرّره من ضوابط كانت أناه المتضخّمة لا تطيقها، فيما كانت أفكاره الأوليّة ونظرته البدويّة إلى العالم تجرّئه عليها. وهذا ما يخفّف مسؤوليّة الزعيم المصريّ قليلاً، لأنّ جموح القذّافي اكتسب، بعد رحيله، أحجامه الهيوليّة. ويمكن القول عموماً إنّ المقارنة بين عوامل إطلاق الجموح وعوامل كبحه، ليست فصلاً قليل الأهميّة في تاريخ السياسات العربيّة ولا في تاريخ العذابات التي عاناها الشعب الليبيّ.