لا تكتمل الرؤية حول موضوع التغيير والإصلاح الذي أصبح مطلباً شعبياً في العديد من البلدان العربية إذا أغفلنا البعد اللغوي، لاسيما في الدول الخليجية حيث تواجه اللغة العربية ضغوطاً كبيرة جراء كثافة العمالة الوافدة بثقافاتها ولغاتها، والتي تقدر بـ190 جنسية. وحسب أحد الباحثين الخليجيين، فإن الهوية الثقافية لمنطقة الخليج العربي معرضة لتأثيرات كبيرة خلال السنوات القادمة نتيجة لزحف الخليط المتعدد من الجنسيات والثقافات واللغات، والذي أصبح يشكل 80 في المئة من سكان الخليج. والخوف هنا هو من لجوء هذه الكثافة السكانية المتعددة الجنسيات واللغات إلى جعل اللغة الإنجليزية لغة للتواصل فيما بينها بدلاً من اللغة العربية، وجعل الأخيرة لغة ثانية أو ثالثة أحياناً. هناك إذن تهديد للأمن اللغوي العربي، وهو تهديد ليس جديداً، بل يرجع إلى الحقبة الاستعمارية، قبل أن يتجدد منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وقد حذرت من خطورته دراسات وأبحاث كثيرة، وأشارت إلى أنه يتكرس بتكثيف المدارس والجامعات الأجنبية التي لا يتوقع أن تصل بالمجتمعات المضيفة إلى الأهداف التنموية المنشودة، خاصة بعد أن أصبحت معالم اللغة العربية تختفي تدريجياً في مجالات معينة وبخاصة في نظام التعليم، كما أصبحت تتوارى من ألسِنة أجيالنا الجديدة ذات اللكنة الأجنبية، بل إن الشركات والفنادق والبنوك وبعض المؤسسات لا تخاطب المواطن العربي في بلده بلغته بل باللغة الأجنبية. اللغة العربية تعيش اليوم مأزقاً خطيراً لاسيما في ظل بعض التوجهات الداعمة لهذا الاتجاه المحفز على تكريس اللغة الإنجليزية في التعليم بدلاً من تمكين اللغة الأم في وطنها. ورغم الجهود المبذولة لمعالجة مثل هذه الإشكالية، فإن تلك الجهود دائماً ما تصطدم بسياسات الفريق الذي يريد تكريس اللغة الأجنبية ظناً منه بأنها الطريق الصحيح لتحقيق التقدم المنشود، رغم أن غالبية الدراسات والأبحاث التربوية، وبعضها صادر عن المنظمات الدولية، تؤكد عدم صحة ذلك الزعم. ففي ثمانينيات القرن الماضي جمعت منظمة الصحة العالمية عمداء كليات الطب في الوطن العربي في مدينة جنيف السويسرية، وناقشت معهم تعريب الطب في الجامعات العربية، وفي نهاية الاجتماع حددت لهم برنامجاً زمنياً مدته عشر سنوات يبدأ من عام 1987 للانتهاء من تعريب العلوم الطبية في الجامعات العربية. ونفس المدة حددتها منظمة "اليونسكو" لإتمام تعريب التعليم في الوطن العربي، وبخاصة تعريب العلوم في الجامعات، وذلك لإدراكها أن الوطن العربي لن يبدع أو يبتكر أو يخترع إلا إذا تعلم أبناؤه العلوم بلغتهم الأم. فالطالب حين يدرس المادة العلمية باللغة الإنجليزية، يقف أمام عقبتين؛ الأولى فهم اللغة كلغة والثانية فهم العلم كعلم، وبذلك فنحن نضع حواجز أمام الطالب لا يستطيع اجتيازها بسهولة، فيضطر للحفظ دون وعي أو فهم ليخرج ما حفظه في الامتحان ثم ينساه بعد قليل، لذلك فهو لا يستطيع الإبداع بلغة غير لغته. وحتى تلتصق الفكرة العلمية في وجدانه ويهضمها جيداً أو يضيف إليها، فلابد أن يدرسها ويتعلمها بلغته، لأن التعليم باللغة الأم شرط لترسيخ العلم وحسن الفهم. وإذا كان الإبداع والابتكار والاختراع... من مقومات النهضة العلمية، فإن أية أمة في التاريخ لم تنهض إذا كان التعليم فيها بغير لغتها القومية. ويمكن الرجوع في هذا إلى المراجع العلمية المختصة. وهناك نماذج كثيرة للبلدان التي نهضت وتقدمت بالاعتماد على لغتها وليس اللغة الأجنبية.