عندما سُئل مرة "المهاتما غاندي" عن رأيه في الحضارة الغربية قال إنها ستكون فكرة جيدة، في إحالة ضمنية إلى تصوره للحضارة الغربية باعتبارها تياراً مادياً جارفاً وآلة استهلاكية طاحنة، وهو ما جعله في النهاية محط انتقادات عديدة كان آخرها المؤرخ البريطاني "نايل فيرجسون" في كتابه الأخيرة الذي نعرضه هنا وعنوانه "الحضارة... الغرب والباقي"، وفيه يستعرض تاريخ هذه الحضارة في قالب تعليمي أكثر منه أكاديمياً لما يغلب عليه من تعميمات وخلاصات تعوزها الأدلة والتحليل، متغافلاً عن بعض الحقائق ومركزاً على أخرى لإظهار تفوق الحضارة الغربية. والكتاب الذي جاء على شكل نقاط يناقشها المؤلف ويعلق عليها، يتزامن مع برنامج تلفزيوني يشرف عليه ومن إنتاج إحدى المحطات البريطانية يتناول نفس الموضوع. وبانحياز المؤلف إلى الحضارة الغربية في استعراضه لتاريخها يكون قد اندرج ضمن المركزية الأوروبية التي تعلي من شأن كل ما هو غربي على حساب الحضارات والثقافات العالمية، ولأن طبيعة الكتاب لا تدعي دراسة مستفيضة للتفاصيل التاريخية ولا للعوامل والمؤثرات الخارجية التي ساهمت في صعود الغرب وحضارته على الصعيد العالمي، فإنه يعرض لمجموعة من العوامل والمحددات التي يراها حاسمة في تفوق الغرب، وإن كان المصطلح الذي يستخدمه للإشارة إلى تلك المحددات يدل مرة أخرى على غطرسة وتعجرف واضحين، فهو يرى في كل عامل "نقطة قاتلة" تحُسب للحضارة الغربية كفلت لها سحق غيرها وإخراجه من حلبة المنافسة. ومن أولى تلك المحددات تبرز المنافسة، فالبلدان الأوروبية المنبثقة عن معاهدة ويستفاليا التي أسست للدولة الأمة كانت منغمسة في منافسة شرسة مع بعضها البعض، سواء تعلق الأمر بالتجارة أو الصناعة، وهو ما قاد إلى تطوير تقنيات جديدة، لاسيما في مجال الشحن والضرائب، فضلاً عن ظهور أشكال جديدة من الشركات بإدخال مفهوم الشركات المساهمة، كما تطورت العلاقة بين الشركات والقطاع التجاري الصاعد وبين الحكام الأوروبيين حصل بموجبه التجار على حق الاحتكار مقابل استفادة النظام السياسي من جزء من الأرباح على شكل ضرائب، وهو ما لم يكن موجوداً في رأي الكاتب لدى الإمبراطوريات العثمانية والمغولية والصينية التي فشلت في تطوير مؤسسات تدعم هيمنتها العسكرية. ويضيف الكاتب عاملاً آخر متمثلاً في الثورة الصناعية كمحدد أساسي في غلبة الحضارة الغربية، فمن كوبرنيك إلى نيوتن، يقول الكاتب، انحصر العلم في أوروبا، وفيما استفاد الأوروبيون من العلم الذي طوره المسلمون في العصور السابقة، فإنه يرجع الفضل للغربيين في تنزيل العلم النظري إلى ابتكارات وتقنيات جديدة أحدثت ثورة في مجالات عديدة مهدت الطريق لظهور المحرك البخاري وانطلاق الثورة الصناعية. أما العامل الثالث فيكمن في تأمين الملكية الخاصة التي عكست بدورها نضوح فكرة دولة القانون وسيادة النظام فاسحة الطريق أمام تطور نظام ديمقراطي تمثيلي. وهنا يقارن المؤلف بين الاستقرار والازدهار الذي عم مستوطنات أميركا الشمالية التي اعتمدت على الملكية الخاصة وبين أميركا اللاتينية التي ظلت لفترة طويلة إقطاعية لملوك إسبانيا لا يملك فيها المستوطنون شيئاً خاصاً بهم. وينتقل بنا المؤلف إلى الطب كأحد العوامل المساعدة التي منحت الامتياز للحضارة الغربية، حيث ساهم التطور الطبي في القضاء على أمراض مهددة للحياة البشرية، موفرة بذلك العمالة الضرورية والطاقة البشرية اللازمة لإقامة الحضارة. ويبدو أن الكاتب نسي في هذا الصدد الانتقائية التي مارستها تلك الحضارة في التعامل مع الأمراض بتركيزها على الأوبئة التي تصيب الإنسان الأبيض وتهميشها أمراض الشعوب الأخرى، هذا ناهيك عن الأمراض التي نشرها الغربيون في المستعمرات وقتلت الكثير من الناس. وعلى الجانب الاقتصادي يعتبر المؤلف ظهور المجتمع الاستهلاكي أحد أهم محددات التفوق الغربي لما كان له من تأثير إيجابي على استمرار الثورة الصناعية وتجددها جيلاً بعد جيل بفضل الطلب المتواصل على منتجاتها. وفي الوقت الذي كانت فيه الرأسمالية الغربية تنتج بضائع أفضل وأرخص رغم الأزمات الدورية التي كانت تتعرض لها، فشلت الشيوعية في خلق زخم مماثل وهو ما حكم عليها بالاندثار. وأخيراً يكرر الكاتب مقولة قديمة عن سبب التفوق الغربي الذي يرجعه، كما فعل من قبل ماكس فيبر ودُحض منذ زمن طويل، إلى القيم البروتستانتية التي تعلي من قيمة العمل والادخار ما يسمح بتراكم فائض العمل ويدفع إلى الاستثمار في تطوير وسائل الإنتاج، لكن المؤلف نسي على ما يبدو أن هذه القيم هي نفسها التي تنتهكها الحضارة الغربية اليوم عندما تركز على اقتصاد الكازينو البعيد عن قيم الكد والاجتهاد وتشجع على الاستهلاك المفرط إلى حد الاستدانة والإفلاس كما أكدته الأزمة الاقتصادية الأخيرة، وكما استشرفه منذ فترة بعيدة "غاندي" عندما سئل عن الحضارة الغربية فلم يجد فيها أكثر من فكرة جميلة تُترجم على أرض الواقع عنفاً واستعماراً وتنكيلاً بالثقافات والشعوب. زهير الكساب الكتاب: الحضارة... الغرب والباقي المؤلف: نايل فيرجسون الناشر: آلان لين تاريخ النشر: 2011