تثير الفرانكفونية جدلاً كبيراً في بعض الدول العربية، والمغاربية خاصة، حيث ينظر إليها البعض هناك على أنها صيغة استعمارية مستجدة لإعادة استتباع مستعمرات فرنسا السابقة، بينما يراها فريق آخر بوصفها إشعاعاً ثقافياً وتواصلاً حضارياً مع بلد صانع للحضارة العالمية الحديثة ويرتبط بعلاقات وثيقة مع بلدان المنطقة، ألا وهو فرنسا. وفي كتابه "السياسة الفرانكفونية والوطن العربي"، يتناول الدكتور وليد الزيدي الفرانكفونية كمفهوم، كما يتابع نشأتها وتطورها التاريخي، متمعناً فيها من حيث الوسائل والأهداف. ثم يناقش وضعها في العالم العربي، متوقفاً عند أهم الخلفيات والأبعاد والتوجهات، قبل أن ينتقل من المجرد إلى المشخص مسلطاً الضوء على "التأثيرات الفرانكفونية في الجزائر". ويتناول الكتاب الصلات الأولى بين العرب وبلاد الإفرنجة منذ القرن الثامن الميلادي، والبدايات المبكرة للعلاقات الفرنسية العثمانية، علاوة على الروابط التجارية التي نشأت لاحقاً، وتركز النشاط الفرنسي حول النواحي الدينية التبشيرية، حيث كان للإرساليات التعليمية الفرنسية تأثير على التعليم والثقافة العربيين. ويتعرض الكتاب للحملة الفرنسية على مصر كبداية لعصر النهضة العربية الحديثة، وللاستشراق الفرنسي الذي أحدث تبادلاً ثقافياً بين العرب وفرنسا. ومن خلال استعراضه بعض المفاهيم والتعريفات التي تشرح مصطلح الفرانكفونية، يلاحظ المؤلف أن أكثر تلك المفاهيم دقة هو ما يشير إلى الفرانكفونية باعتبارها مجمل نشاطات الترويج للغة الفرنسية، وما تحمله هذه اللغة من قيم وأفكار ومُثل، فضلاً عن تجسدها مؤسسياً في "المنظمة الدولية للفرانكفونية" التي تضم 56 دولة موقعة على ميثاقها. ويتتبع الكتاب نشأة الفرانكفونية وتطورها التاريخي منذ أن ظهر مفهومها لأول مرة عام 1880 على يدي الجغرافي الفرنسي "أونسيم ريكلوس"، الذي اعتبرها "فكرة لغوية وعلاقة جغرافية". لكن ظهور الفرانكفونية بشكل مؤثر في الساحة الدولية يرجع إلى ما بعد الاستعمار الفرنسي، وتحديداً في أواخر ستينيات القرن الماضي، بهدف التعويض عن الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية التي توارت عقب نيل المستعمرات السابقة استقلالها عن باريس. وقد ظهر أول تجمع فرانكفوني عام 1970 في مدينة نيامي عندما اجتمع ممثلو 22 بلداً لتكوين نواة لتأسيس الفرانكفونية بمفهومها الجديد الذي أعلن رسمياً في ذلك العام إبان حكم جورج بومبيدو. وعلى هذه الخلفية يتناول الكتاب الثقل الدبلوماسي الفرنسي في إدارة وتوجيه السياسة الفرانكفونية، ويستعرض أهم مؤسسات الدولة الفرنسية المعنية بإدارة وتوجيه السياسة الفرانكفونية. أما الوسائل والأدوات التي تستخدمها الفرانكفونية في تنفيذ سياساتها المرسومة، فيذكر المؤلف في مقدمتها وسائل الإعلام والاتصال، لاسيما القنوات الفضائية مثل "تي في سينك" و"أورو نيوز"، إضافة إلى "إذاعة فرنسا الدولية" و"إذاعة مونت كارلو"، وصحيفتي "لابل فرانس" و"باري ماتش". وفي المجال التعليمي يشير الكتاب إلى أكثر من 400 مؤسسة تعليمية فرانكفونية متمركزة في 130 بلداً، تستقبل أزيد من 250 ألف طالب، فضلاً عن المراكز الثقافية الممتدة على شبكة مؤلفة من 1060 مركزاً موزعة في أكثر من 140 بلداً. وعن أدوات السياسة الفرانكفونية، فإن أهمها اللغة والثقافة الفرنسيتان؛ وقد حاولت فرنسا حمايتهما دائماً من خلال التوسع في التعاون الثقافي والعلمي والتقني مع دول العالم النامي... فاللغة الفرنسية تعد السلاح الرئيسي للفرانكفونية في ولوج المجتمعات المختلفة، وكثيراً ما اعتبرت فرنسا أن نشرها أولوية رئيسية لسياستها الخارجية، لاسيما إزاء مستعمراتها السابقة في غرب وشمال إفريقيا. أما عن الفرنكفونية في البلاد العربية، فيقول المؤلف إنها نتاج للمرحلة الاستعمارية الفرنسية؛ فخلال تلك الحقبة تأسست اللبنات الأولى للفرانكفونية في الوطن العربي، ثم أصبحت لها تأثيرات عميقة في مختلف نواحي حياة البلدان العربية التي استعمرتها فرنسا، لاسيما في مجال التعليم والثقافة والأدب والإعلام. ولعبت فرنسا دوراً كبيراً في الإبقاء على اللغة الفرنسية كلغة رئيسية للبلدان التي استقلت عنها، وتصدت للتعريب، وشجعت الطروحة الأمازيغية. وفي هذا الخصوص يقول المؤلف إن النخبة الفرانكفونية لعبت دوراً كبيراً في الترويج للثقافة الفرنسية، وفي تكريس الولاء لفرنسا وسياساتها. وأخيراً، يعرض الكتاب لمحة تاريخية عن التركة الثقافية للاستعمار الفرنسي في الجزائر، لدورها الفاعل في ترسيخ الفرانكفونية هناك، قائلاً إن الجزائر التي تخلصت من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، بقيت رهينة لميراث التبعية اللغوية والثقافية بشكل خاص، مما خلق أرضية خصبة ساعدت على إيجاد حضور واسع للفرانكفونية وممثليها في الحياة العامة للجزائر، كنموذج للدول العربية التي كانت ذات يوم ضمن المستعمرات الفرنسية. محمد ولد المنى الكتاب: السياسة الفرانكفونية والوطن العربي المؤلف: د. وليد الزيدي الناشر: دار أسامة تاريخ النشر: 2010