سعى أوباما هذا الأسبوع لطمأنة الجمهور الأميركي الذي يشعر بالقلق، بأن التدخل العسكري لإدارته في ليبيا له ما يبرره، وأن الإدارة لها أهداف واضحة، وأن المجتمع الدولي على استعداد للمشاركة في تحمل الأعباء والمخاطر. كما أشار في خطابه إلى رؤية مميزة للقيادة العالمية تتبناها الولايات المتحدة وتنبني على التعاون الدولي. وقدم الرئيس من الحجج ما يثبت أن ذلك التدخل ينطلق من دوافع أخلاقية مبررة تتمثل في إنقاذ المدنيين الليبيين من المذابح التي يهددهم بها القذافي، وهي مذابح لو كان المجتمع الدولي قد غض الطرف عنها، فإنها كانت ستتحول إلى "وصمة عار تظل لاصقة دوماً بجبين العالم". وحرص أوباما على تعريف الأهداف الأميركية من التدخل، بأنها تقتصر على" المهمة الخاصة بحماية الشعب الليبي من تهديدات القذافي"، منكراً في الآن ذاته، أن يكون هدف الولايات المتحدة من ذلك التدخل هو تغيير النظام في ليبيا، كما كان الحال في العراق، وأوضح بشكل جلي أن الولايات المتحدة لا تسعى لإرسال قوات برية إلى ذلك البلد. وهذا المزيج غير المعتاد من "التدخل الإنساني المسلح" و"ضبط النفس العسكري" لن يرضي الواقعيين الذين يشتكون من أن الولايات المتحدة، ليست مهددة أمنياً من جانب ليبيا. كما أنه لن يرضي المحافظين الجدد(أو حتى التقدميين) من أنصار النزعة التدخلية في شؤون الدول لحماية المصالح الأميركية، والذين يصرون على ضرورة إقصاء القذافي وتغيير نظامه بنظام آخر ديمقراطي. وفي الحقيقة أن التدخل في ليبيا كما تم التعبير عنه على لسان أوباما، يمثل طريقاً وسطاً متعقلاً للولايات المتحدة، التي تسعى إلى تجنب حدوث مذابح جماعية، والتي لا تساورها رغبة في التورط بحرب جديدة. والسجال لا يقتصر على أهداف السياسة الأميركية، وإنما يمتد أيضاً الى وسائلها. فالمنتقدون للإدارة يشنون الهجوم عليها، لإنها سارعت للانضمام لركب التعددية العالمية، وهو ما يؤدي في نظرهم إلى الحد من حريتها في العمل، ودفعها للمشاركة في الحروب من خلال الوكالة، أي توكيل الآخرين بتنفيذ ما تريده. وفي الحقيقة أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس يوم الاثنين الماضي، يقدم رداً كافياً على تلك الانتقادات من جانب خصوم الإدارة. فمن خلال تأكيده على حرص بلاده منذ الوهلة الأولى على الحصول على تفويض من مجلس الأمن الدولي، والحصول قبل ذلك على قرار من الجامعة العربية يدعو المجلس لفرض منطقة حظر طيران، والاتفاق مع دول عربية على المشاركة في المهمة، وتأمين تحالف دولي من الراغبين في المشاركة في العملية، فإن الولايات المتحدة تكون بذلك كله قد قامت بتأمين الشرعية الدولية المطلوبة، وضمنت في الآن ذاته أن أعباء المهمة سوف يتم تحملها من قبل التحالف الدولي المشارك فيها. ورؤية الولايات المتحدة على أنها دولة منظمة للمجتمع الدولي، إذا ما شئنا أن نسميها كذلك، هي رؤية تنتمي إلى إدارة أوباما، ولكن يمكن القول مع ذلك على أنها تنطوي على ملامح ميزت إدارة كلينتون أيضاً. ففي مايو من عام 1993 وفي عهد إدارة كلينتون، أدلى "بيتر تارنوف" وكيل وزارة الخارجية في ذلك الوقت بتصريح غير دبلوماسي، قال فيه إن الولايات المتحدة تفتقر إلى الموارد التي تمكنها من الاستمرار في إدارة شؤون العالم. وعلى الرغم من أن إدارة كلينتون قد سارعت لإعلان تنصلها من تصريحات"تارنوف"، فإن الاستراتيجية التي اتبعتها فيما بعد تثبت أن ما قاله الرجل كان صحيحاً. فالولايات المتحدة بدأت منذ ذلك الوقت تسعى إلى تنفيذ استراتيجية تعددية تسعى من خلالها لتأكيد حضورها الفاعل على الساحة الدولية، على أن يتم ذلك من خلال الدخول في أحلاف متعددة الأطراف، بما يسمح بتقاسم الأعباء العالمية. وكانت الولايات المتحدة تسعى أيضاً من خلال تلك السياسة التعددية إلى إظهار أنها لا تنفرد بالقرار والفعل في العالم بما يجعل من مسألة حصولها على الدعم والتعاون في كافة القضايا العالمية أمراً أكثر يسراً. ولا شك أن إقدام الولايات المتحدة على نقل قيادتها لعملية ليبيا لـ"الناتو"، يعني أن أوباما يسلك طريقاً مشابهاً لذلك الذي سلكه كلينتون في تسعينيات القرن الماضي. لا نستطيع أن نقول إنه مماثل تماماً لـ"عقيدة تارنوف" وإنما شيء يمكن لنا أن نسميه"عقيدة رفع اليد" أي عدم التدخل المباشر وجهاً لوجه في القضايا والمشكلات العالمية، لتجنب التعرض لمآزق قد يصعب الخروج منها. ولكن تلك العقيدة - حتى لا يساء فهمها - لا تعني أن تقف الولايات المتحدة على الخطوط الجانبية لأي أزمة تراقب تطوراتها من بعد تاركة للآخرين أن يمارسوا الفعل، وإنما تعني أنها على الرغم من حرصها على عدم التورط بشكل مكثف، لا تمانع من التدخل في الوقت المناسب من أجل ضبط التوجه السياسي لما يحدث في ليبيا في الوقت الراهن. ويشار إلى أن هناك 40 حكومة ومنظمة دولية، قد اجتمعت في لندن لتكوين ما يعرف بـ"مجموعة الاتصال" لمناقشة موضوع ليبيا بمشاركة من وزيرة الخارجية الأميركية للمساعدة على حشد الضغط الدولي ضد العقيد القذافي وإجباره على المغادرة. هناك العديد من القرارات الصعبة التي سيتعين اتخاذها، فيما بعد منها على سبيل المثال القرار الخاص بتسليح المتمردين، إلى التخطيط لإدارة الأوضاع مرحلة ما بعد القذافي، وهو ما سيتطلب مساهمة أميركية فاعلة. وفي مواجهة مثل هذه الموضوعات المثيرة للجدل، هناك احتمال كبير جداً لأن تجد الولايات المتحدة نفسها ممزقة وحائرة بين المحافظة على وجود أكبر تحالف ممكن، وحشد تشكيل فرعي من الحلفاء الذين يماثلونها في التفكير لمشاركتها في تكوين رؤية موحدة بشأن مستقبل ليبيا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ستيوارت إم. باتريك زميل رئيسي ومدير برنامج المعاهد الدولية ودراسات الحكومة العالمية بمجلس "العلاقات الخارجية الأميركي" ينشر بترتيب خاص مع خدمة"تريبيون ميديا سيرفس"