لا زالت أحداث العالم العربي تلقي بظلالها على مجرى التطورات الاقتصادية والسياسية في العالم وتهدد بتغيير موازين القوى والتحالفات على مختلف الأصعدة، بل إن وزير النفط الفنزويلي حذّر من إمكانية انهيار منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" إذا ما استمرت حالة عدم الاستقرار التي شملت بلدان أعضاء في المنظمة. ورغم أن الأسباب الجوهرية لهذه الأحداث تكمن في التدهور الاقتصادي الناجم عن الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية، فإن المطالبة بالإصلاحات اتخذت منحى آخر تمحور حول الإصلاحات الدستورية والسياسية، بل إن مطالب المحتجين في بعض البلدان العربية اقتصرت على الجوانب السياسية من خلال استغلال الأوضاع العامة لتحقيق أجندات ذات طابع طائفي، مما عمق الانشقاق داخل هذه المجتمعات. وقد سادت معظم البلدان العربية خلال الخمسين عاماً الماضية حالة من الغبن الاجتماعي والاقتصادي، بحيث ازدادت الفوارق الاجتماعية وارتفع معدل الفقر وتدهورت المستويات المعيشية وضعفت الطبقة الوسطى كصمام أمان للاستقرار الاجتماعي. وصاحبت ذلك أسباب أخرى موضوعية تمثلت في ازدياد السكان الذين تضاعفت أعدادهم في العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث شكل ذلك ضغطاً إضافياً على الموارد التي بدأت تعاني من النقص وارتفاع الأسعار، مما ساهم في تدهور الأوضاع المعيشية للسكان. وشمل هذا التدهور بلداناً غنية، كليبيا والعراق والجزائر التي يعاني أبناؤها الفقر والهجرة للعمل في الخارج، بينما تذهب مقدرات بلدانهم إما للإنفاق العسكري الباهظ وغير المنتج أو للإثراء غير المشروع. ونتيجة لذلك تبخرت مئات مليارات الدولارات من البلدان التي تواجه صراعات، حيث كان بالإمكان استغلال هذه الأموال لإحداث نقلة اقتصادية كبيرة، علماً بأن استرداد هذه الأموال سيكون صعباً للغاية بسبب التعقيدات المحيطة بحركتها. هذه الأوضاع المعيشية تمثل الأسباب الحقيقية التي حركت الملايين في مختلف المدن العربية، أما "الفيسبوك" و"التويتر"، فكانا عاملين مساعدين ولم يكن بإمكانهما عمل الكثير لولا نضوج العوامل الداخلية الموضوعية. لذلك، فإن المهام الأساسية التي تنتظر الأنظمة الجديدة في البلدان العربية، هي مهام أصعب من الثورات ذاتها وأكثر تعقيداً، إذ ترتبط بمرحلة البناء وحسن إدارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتسخير الموارد المتاحة للتنوع الاقتصادي والتنمية لتطوير البنى التحتية ورفع مستويات المعيشة وتوفير فرص العمل... فالإصلاحات الدستورية والسياسية وحدها لن تلبي طموحات الشعوب العربية التي تلمس مدى التقدم الاقتصادي المتحقق في العديد من بلدان العالم النامي، كدول مجلس التعاون الخليجي والهند والبرازيل. وإذا كان البعض يأخذ على دول المجلس ضعف المشاركة المجتمعية، فإن التقدم الكبير الذي حققته في المجال الاقتصادي أدى إلى تصنيفها دولياً ضمن البلدان الناشئة سريعة النمو، مما يدفع التقدم في المجالات الأخرى، إذ وضعت دول المجلس الأسس الاقتصادية وعززت من الاستقرار الاجتماعي كشرطين لمرحلة التنمية القادمة، مما يتطلب استفادة البلدان العربية الأخرى من التجربة التنموية الخليجية والتي وضعت دول مجلس التعاون الخليجي على رأس قائمة تصنيف الأمم المتحدة للتنمية البشرية إلى جانب البلدان الصناعية المتقدمة. نعم ليس من السهل تحقيق ذلك في العديد من البلدان العربية، إلا أن تجارب بلدان نامية أخرى، كماليزيا وكوريا الجنوبية، تقدم تجربة غنية، وذلك إذا ما وجهت الشعوب والأنظمة العربية اهتمامها معاً للتنمية بدلاً من الصراعات الطائفية والعرقية المقيتة. د. محمد العسومي