في رسالته إلى البرلمان الأوروبي والكونغرس الأميركي ومؤتمر لندن الذي عُقد في29 مارس الماضي، أعاد القذافي إنتاج اتهامه للثورة الليبية بأنها من صنع "القاعدة"، فقال إنه "بسبب دور ليبيا الكبير في الحد من خطر الإرهاب تسللت عناصر (القاعدة) وجندت من جندت واستغلت ما حصل في تونس ومصر كغطاء لإقامة إمارة إسلامية". ووفقاً لرسالته، فإن قواته تخوض حرباً ضد "القاعدة" التي قال إن عناصر منها تسيطر على بنغازي وتأسر بعض الأفراد وتجبرهم على العمل في خدمتها للحصول على مساندة من الخارج باعتبارهم واجهة غير دينية. كما اتهم المجلس الوطني الانتقالي صراحة بأنه مسيَّر لخدمة "القاعدة"! ورغم أن هذا خطاب يأباه العقل، فضلاً عن عدم انسجامه مع الواقع، فهو يلقى صدى في بعض الأوساط الغربية، ويساهم في تعقيد مسألة تسليح الثوار الليبيين. فإثارة بلبلة بشأن هوية هؤلاء الذين يمكن تسليحهم يُقلق قادة غربيين من إمكان وقوع الأسلحة بأيدي "القاعدة". وعندما يكون بين هؤلاء قادة كبار بوزن الأميرال جيمس ستافريس القائد الأعلى لقوات "الناتو" في أوروبا وقائد القيادة الأوروبية للقوات الأميركية، ربما يصعب توقع حدوث توافق على تسليح الثوار الليبيين. فستافريس يعتقد أن هناك دلائل على وجود قوى أصولية منظمة داخل المعارضة الليبية المسلحة، لكنه يقر بأن أحداً لا يملك صورة كاملة وتفصيلية من الميدان. ويذهب بعض الخبراء الأمنيين الغربيين إلى أبعد من ذلك، إذ يخشون أن تكون "القاعدة" هي المستفيد الأول من الثورات العربية عموماً، وليست الثورة الليبية وحدها. ومنهم مثلاً مايكل سكوير أستاذ الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون الأميركية. فكان عنوان مقالته، التي نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" قبل أيام: "القاعدة تجني ثمار ثورات الشرق الأوسط". ورغم أن هذا الاستنتاج يبدو عجيباً، فإن العجب يزول حين يُعرف السبب وهو عدم التمييز بين "القاعدة" وجماعات إسلامية مُعتدلة، مثل "الإخوان" في مصر و"النهضة" في تونس، وغيرهما. فهو يتحدث عن "القاعدة والجماعات المماثلة لها فكرياً" تارة، وعن "القاعدة والجماعات المشابهة" تارة أخرى. ويبدو سكوير، ومن ينهج نهجه هذا في حالة إنكار للواقع الذي تنقله وسائل الإعلام التي تغطى الأوضاع في ليبيا بدرجة معقولة من الموضوعية والمهنية، مثل صحيفة "نيويورك تايمز" التي تحدت تلك الفرضية، حيث نشرت تحقيقاً مميزاً خلصت فيه إلى أن "القاعدة" قد لا يبقى لها دور في المنطقة بعد هذه الثورات التي تضعف قدرتها على تجنيد شباب غاضبين محبطين وإقناعهم بأن حكام العالم العربي ليسوا إلا دمى بأيدي الغرب، ضد الإسلام وقضايا الأمة. فلن يكون ممكناً ترويج مثل هذا الخطاب عندما تنهض الشعوب لتقرر مصيرها وتحقق الديمقراطية التي يعتبرها ابن لادن وأعوانه كفراً وهرطقة. فإذا كانت الإطاحة بمبارك هدفاً قديماً حلم به الظواهري، فقد فشل في تحقيقه، بينما نجح فيه مصريون تحركوا بأساليب ديمقراطية تتعارض مع فكر "القاعدة" وبوسائل سلمية أبعد ما تكون عن عنفها. ولا يجد الخائفون من "القاعدة" والذين يثيرون الفزع منها دليلاً مادياً يمسكون به إلا تنامي هجمات "القاعدة" في اليمن خلال الأسبوعين الأخيرين، لأن التخويف منها في ليبيا ما زال قائماً على افتراضات. فيدفع بعضهم بأن "القاعدة" بدأت تستفيد فعلاً في اليمن، إذ ازدادت هجماتها على قوى الأمن وحواجز التفتيش بينما ينشغل النظام بأزمته المتفاقمة. غير أن ازدياد هجمات "القاعدة" في وضع شديد الاضطراب ليس مستغرباً في ضوء نجاحها في تعزيز وجودها في اليمن خلال العامين الأخيرين بعد ضرب ركائزها في السعودية. فما كان لها أن تتوطن في اليمن إلا بسبب الاختلالات الداخلية التي أتاحت لها أن تجد ملاجئ آمنة وتجَّند المزيد من الأتباع. ومن شأن معالجة هذه الاختلالات أن يضع حداً لقدرتها على البقاء هناك. وعندما تؤدى الثورات الشعبية إلى تغيير أو إصلاح ينهض بالبلاد التي تحدث فيها، سيكون صعباً على "القاعدة" أن تنفذ إليها. وينطبق ذلك على ليبيا، كما على غيرها. وفي حالة ليبيا بصفة خاصة مفارقة مثيرة للتأمل بشأن مواقف الدول الغربية تجاه الثورة فيها. فدولة مثل فرنسا التي تنخرط في معركة مباشرة ضد "القاعدة" تبدو هي الأكثر مساندة لثورة يقال إن هذا التنظيم يجني ثمارها، بينما الدول الأكثر تردداً في دعم تلك الثورة (مثل ألمانيا) تعتبر بعيدة عن هذه المعركة. وكان بن لادن قد حوَّل دفة تهديده من أميركا إلى فرنسا في آخر أكتوبر الماضي، أي عشية اندلاع الثورات العربية. ففي "رسالة للشعوب العربية" أشاد بالعملية التي نفذها "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وأدت إلى خطف خمسة فرنسيين في شمال النيجر. لكن الأهم من ذلك أنه هدد فرنسا بعقاب عظيم إذا لم تغير سياستها تجاه أفغانستان والنقاب. وإذا كان هناك دور لـ"القاعدة" في ليبيا، فالمفترض أن يرتبط بأحد تنظيميها في إفريقيا، وهما "المغرب الإسلامي" و"الساحل والصحراء". وهذان التنظيمان هما اللذان أعلنا الحرب على فرنسا ومصالحها في إفريقيا. والمفترض بالتالي أن تكون هي الأكثر تحفظاً على مساندة الثورة الليبية لو أن هناك أساساً للحديث عن دور رئيسي لـ"القاعدة" فيها، ناهيك عن أن تكون هي صانعتها. لذلك يصعب الربط بين التقديرات التي تغالي في دور "القاعدة" من ناحية ومصالح إسرائيل التي تقض هذه الثورات مضجعها من ناحية ثانية. ولا يخفي قادة وإعلاميون إسرائيليون قلقهم منذ أن انتقلت الثورة من تونس إلى مصر. وحتى بالنسبة لسوريا التي يتبنى نظام حكمها سياسة "ممانعة"، كشفت صحيفة "هآرتس" مدى قلق المؤسسة الإسرائيلية من الاحتجاجات التي بدأت ضده. فقد قامت استراتيجية إسرائيل الأمنية في العقدين الأخيرين على أن نظم الحكم في البلاد العربية، وخصوصاً المجاورة لها، أفضل بكثير من بدائلها التي جزمت بأنها ستكون إسلامية. ويقوم أنصار إسرائيل الآن بدور بارز في ترويج خطر "القاعدة" والتيارات الإسلامية عموماً، سعياً إلى وضع سقف منخفض لمساندة الغرب لبعض الثورات العربية. غير أن أي تقدير موضوعي لاحتمالات هذا الخطر ينبغي أن يسترشد بأحد الأسس المرجعية في نظرية العنف وممارساته، وهو أنه كلما وجد الناس قنوات سلمية للتعبير عن المظالم والمطالب تراجع احتمال لجوئهم إلى العنف. لذلك فالأرجح أنه بمقدار ما تؤدى الثورات العربية إلى انتشار الديمقراطية بعد تغيير بعض النظم وإصلاح بعض آخر، سيكون على "القاعدة" أن تحمل إرهابها وترحل.