ليست هناك مدينة عراقية، بل ولا قرية، إلا وسال على ترابها الدَّم القاني، كم نُكبت البصرة، ورُوعت الحلة، وجُزر أهل كربلاء وزوارها، والقائم، والفلوجة، وسامراء، وتستيقظ أربيل والسُّليمانية، بين الحين والآخر، على دوي المتفجرات، ولا ندري متى يتوقف النَّزيف بالموصل، ومتى يوضع حد لكاتم الصوت ببغداد! أعداد الأرامل غطت وجه العِراق بالرَّمل القاحل، والوشيجة واضحة بين الرَّمل والتَّرمل، فالرَّملاء هي السَّنة المجدبة التي لا مطر فيها، وها هنَّ أجمل العراقيات يتحولنَ يومياً إلى أرامل، كلُّ هذا والمواجهات والمعارك جارية على مدى عام على غنائم الوزارات الأمنية. تكريت التي أخذناها بجرائر السَّابقين، مِن دون النَّظر في خسائرها ومقاتلها، لم تعلن عصياناً، بعد 2003، ولم تُعرقل مسيرة، بل قدمت نموذجاً لوحدة العِراق، وما استبدلت الوطن بشخص، ملأ مقابرها بخيرة الضُّباط والأطباء والوجهاء. كان التحالف والتَّضامن بين ابنها مولود مخلص (ت 1951) ووجيه بغداد جعفر أبو التِّمن (ت 1945) قائماً يوم كان العمل على أساس الطَّائفة مخجلاً. سيقولون إن مخلصاً عمل مِن أجل تكريت وللغربية عامةً، وليس لي النَّفي، لكن علينا، في الوقت نفسه، ألا ننسى حضوره الوطني العِراقي في أي حزب شارك فيه، ولما كان متصرفاً لكربلاء ترك ذكرى طيبة، ولم يتأخر عن نصرة كربلاء والنَّجف عندما سارت الوفود مِن أهل السُّنَّة، مِن بغداد وتكريت والموصل، للدِّفاع عن عتبات كربلاء والنَّجف عند غfزوة الإخوان القادمين مِن نجد سنة 1922، وتاريخ تكية الخالدية ببغداد شاهد (الوردي، لمحات اجتماعية). هذا عندما نأخذ الحوادث بعراقيتها أما من يريد النزوع نزعةً طَّائفية فلا أظنه سينظر إلا في ما يؤججها. مذبحة تكريت (صباح 29 مارس 2011) تُقدم دليلاً آخر أن أعناق العراقيين في المذبح جمعاً، مَن أراد السُّوء بهذه البلاد لا يميز بين الدِّماء، ومَن يفجرون أنفسهم ويقتلون ويلوغون بالدِّماء لا يوصفون بمذهب ودين، إنهم قتلة وكفى، وهي رسالة للعراقيين: أنتم إلى الفناء ذاهبون، ما دامت البلاد بلا مصالحة صريحة، فلا السُّنة استفادوا مِن أحزابهم، ولا الشيعة وجدوا الخير ممَن يتحدث باسمهم، ولا الكرد رضوا بأحزابهم، وكلما ضاق الخناق على أداء تلك الأحزاب تسارعت إلى الهتاف بحقوق الطَّوائف، مع أن الجميع معرض للقتل، ولا محمياً إلا مَن وجد له قصراً بالمنطقة الخضراء. لمذبحة تكريت أكثر مِن دلالة: حدثت داخل قصر حكمها، وبزمان يقظة حراستها (صباحاً مع الدَّوام الرَّسمي)، كل ذلك يُشير إلى أن الخصم قوي، ولا تمنعه البوابات المحكمة، فلو حدثت تلك المجزرة في سنوات القتل والخطف الطَّائفي لركب الطَّائفيون مركبها واتخذوها برهاناً على تقسيم البلاد إلى غيتوهات، مثلما جرت محاولاتهم لكنها فشلت. فالذين يتربصون بالسُّنة مِنهم، ومَن يتربص بالكرد منهم أيضاً، ومَن يتربص بالشِّيعة مِنهم كذلك. ومِن المخجل أن تصر الأحزاب الفئوية، بعد فشلها الذَّريع على الاحتفاظ بأسمائها الطَّائفية والدِّينية والقومية، مِن دون أن تعي أن الخلل في تركيبها. عليها الاعتراف بمسؤوليتها بداية مِن مجلس الحكم. أية حاضرة عراقية خلت مِن تاريخ! حتى الأسماء تجدها صمدت بوجه محاولات تعريتها منها، لشأن قومي أو فئوي عابر، وتكريت واحدة مِنها عزلتها عنا ممارسة حزب نجح في التَّدمير وشخص تفنن في الخراب، أخذناها عدواً وهي المبتلية مثل بلوتنا، ولست راغباً بتبديل اسمها إلى صلاح الدِّين، لأنها "تكريت" وكفى، شأنها شأن كركوك ذات الاسم العريق، أُخذت واستبدلت بالتَّأميم، وما زاد الكراهية والفِرقة أن اُستقطعت نواح وقصبات لتضاف لتكريت، وأهلها لم يطلبوا ذلك. تكريت مدينة ضاربة الجذور في التَّاريخ، تقع على ضفة دجلة اليمنى، يقول أهل المعرفة: إن اسمها ورد في المدونات البابلية، وعُرفت بـ"تكريتين"، وقلعتها المشهورة اسمها "برتو"، وقد جمعت هي وقلعتها باسم "تكريتين" (مجلة سومر، أُصول أسماء الأمكنة العراقية). ذكر أهلَها ابن حوقل (ت 371 هـ) قائلاً: "لينو العريكة محبو الغريب ويتعصبون له، وربما حُمل مِن فاكهتها إلى الموصل وينادي عليها" (صورة الأرض). وقال فيها فيلسوف الشُّعراء المعري (ت 449هـ) في تائيته: "هاتِ الحديث عن الزَّوراء أو هيتا.. وموقد النَّار لا تُكرى بتكريتا" (سقط الزَّند). ومرَّ بها الرَّحالة ابن جُبير (ت 614 هـ)، قبل وفاته بأربعة وثلاثين عاماً، وهو في طريقه مِن بغداد إلى الموصل، ووصفها قائلاً: "واسعة الأرجاء، فسيحة السَّاحة، حفيلة الأسواق، كثيرة المساجد، غاصة بالخلق، أهلها أحسن أخلاقاً وقسطاً في الموازين مِن أهل بغداد، ودجلة منها في جوفيها، ولها قلعة حصينة على الشَّط" (الرحلة). أما سبب تفضيل الرَّحالة للتكارتة على البغاددة فلأن الأخيرين، حسب قوله: "يزدرون الغرباء، ويظهرون لمَن دونهم الأَنفة والإباء" (الرِّحلة). هذا وللمسيحية طنب في تاريخ تكريت القديم، وفيها آثار كنائس. وجد ابن حوقل في زمانه، "أكثر أهلها نصارى... وبها مِن البيع والأديرة القديمة" (صورة الأرض). وفي التَّنافس بين المدن يُذكر أن تكريت كانت في العهد العثماني ناحية تابعة لقضاء سامراء، والأخيرة تابعة لسنجق بغداد (النَّجار، الإدارة العثمانية في ولاية بغداد)، ثم تحولت في العهد الوطني العِراقي إلى قضاء يتبع بغداد مباشرة، فقال أهل تكريت حينها إهزوجتهم المعروفة: "تكريت صارت قضاء على عناد سامراء". ونقل لي حازم السَّامرائي، صاحب مكتبة الحكمة، أنه سمع مِن محافظ صلاح الدِّين (تكريت) عيادة الصِّديد، أن الأخير اقترح على الحكومة في عهد "البعث"، أن تكون سامراء هي المحافظة وتظل تكريت قضاءً يتبعها، فالأخيرة كانت عاصمة في يوم ما لإمبراطورية مترامية الأطراف. على العكس صارت سامراء قضاءً تابعاً لتكريت، وحصة سامراء مِن القتلى في المذبحة الأخيرة كبيرة، ومنهم كوادر علمية وإعلامية كالطَّبيب واثق محمود شكري السَّامرائي، اختصاص في الأشعة، والصَّحافي صباح البازي. لقد تكرر الخطأ، أو الإصرار عليه، أن يُزيد تدخل القوات الأمنية مِن عدد القتلى، وشاهد كنيسة "النجاة" ما زال حاضراً. على أية حال، لا تبدو هناك نهاية قريبة لسيل الدَّم العِراقي القاني، والحالة الأمنية التي تهدأ ليومٍ أو ليومين على حين غرة، تنفجر بكارثة، بالتزامن مع مواصلة نهب الثَّروة، وحتى هذه اللحظة لم يُشخص قاتل ولا فاسد، ولا حامل كاتم صوت، أقصد الحيتان الكبيرة التي تعبث بالدِّماء والأموال.