احتجاجات الشارع العربي المنتفض، من ليبيا إلى اليمن، تسيطر على كثير من أخبار العالم هذه الأيام، فهل تساعدنا تقارير برنامج الأمم المتحدة الستة، والتي ظهرت خلال الأعوام العشرة الأخيرة على فهم ما يجري في هذا الشارع، أم أن الأمر يحتاج إلى إضافة لتلك التقارير ذاتها؟ اتصل بي صديقي السوري المقيم في السعودية، ليناقش معي السيل المتواصل من هذه الاحتجاجات، لكن أساساً ليبلغني بخيبة أمله في خطاب الرئيس بشار الأسد، والذي "سكت دهراً فنطق..."! وبالطبع فإن صديقي لم يقتنع بما ورد في كلام الرئيس حول عنصر "المؤامرة الخارجية"، والتي قد توجد بدرجة أو أخرى، لكنها ليست بهذه الأهمية التي يصورها خطاب الرئيس، بل العنصر الأهم هو أنه لم يَصدُر إلى الآن قرار بالإصلاحات التي طال انتظارها. ففي رأيه أن السبب الرئيسي لغليان الشارع السوري، هو أولاً وقبل كل شيء متاعب المواطن السوري، الاقتصادية والسياسية، جراء الطبيعة الشللية للنخبة وما يترتب عليه من استشراء للفساد، علاوة على عدم التواصل مع الشارع، وسيطرة الهاجس الأمني، أي مصارعة الشارع بدلاً من محاورته، وكذلك أسلوب إدارة حكم يقوم على الغلبة بدلاً من المشاركة. وهكذا أوجز صديقي -الذي يُصر على أنه لا يهتم بالسياسة- إشكالية الحوكمة، ليس فقط في سوريا بل في معظم الدول العربية. وكيف لا يكون الحكم بالضرورة وطول الوقت مرادفاً للتحكم الجامد! يبلغ عمر الاستقلال السوري ما يقرب من 70 عاماً، والليبي 60 عاماً، والمغربي والتونسي 55 عاماً، والمصري 90 عاما... ومع ذلك تميزت بداية هذا العام بطوفان الاحتجاجات في الشارع، بعضها نجح في الإطاحة بالنظم السياسية، كما حدث في تونس ومصر، وبعضها وضع البلاد على شفا حرب أهلية، كما يحدث في اليمن وليبيا مثلاً. ولا يستطيع أحد التكهن حتى الآن بما إذا كانت هذه الاحتجاجات المتواصلة هي فعلاً "الفوضى الخلاقة" كما تحدثت عنها واشنطن ذات يوم، وإلى أين ستقود؟ وما الثمن في نهاية المطاف؟ هذا هو لب الموضوع كما يقال، ليس فقط في منطقتنا العربية، ولكن -وبسبب أهمية المنطقة الاستراتيجية- لكثير من أنحاء العالم. أعادتني إشكالية الحوكمة هذه ومسارها ومصيرها إلى قراءة ما اعتبره أهم الإصدارات العالمية عن منطقتنا خلال العقد الأخير: وأقصد بها تقارير التنمية الإنسانية العربية، والتي يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وقد ظهرت منها حتى الآن ستة تقارير، بمعدل تقرير شامل كل عامين أو أقل في المتوسط. وبلغت صفحات هذه التقارير الستة 1514 صفحة ترتكز على جهد تحليلي رائد من جانب المفكرين العرب، علاوة على 361 ورقة بحثية خلفية وبنك معلومات في 391 جدولاً. وإلى جانب كل ذلك، تقدم التقارير رؤية أو نموذجاً إرشادياً للحالة العربية، وتركز أساساً على ثلاثة أوجه للنقص أو العجز: نقص المعرفة، نقص الحرية، والنقص في منظومة القيم السائدة، وخاصة فيما يخص وضع المرأة. وقد قدمت هذه التقارير نظرة كلية بانورامية، حيث اعتبرها الكاتب الصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل، مثل جرس إنذار يدق للقيام بالعلاج قبل فوات الأوان. ما هي العلاقة بين هذه التقارير وتشخيصها لأوجه النقص أو العجز وبين ما يحدث الآن من احتجاجات في أنحاء مختلفة من المنطقة العربية؟ أحد أوجه الإشكالية العربية الحالية، يتمثل في عجز أو نقص رابع هو ما يمكن أن نسميه عدم القدرة على التكيف وعلى إدارة هندسة التغيير؛ ففي غالبية المجتمعات العربية هناك فجوة ملحوظة بين جيل النخب الحاكمة كونها في الغالب من كبار السن (مبارك 82 عاماً) زين العابدين بن علي ( 74 عاماً، وبين أغلبية سكانية تدخل في الفئة العمرية الشابة، إذ نجد أن من تقل أعمارهم عن 30 سنة يمثلون نسبة تتجاوز نحو 60 في المئة من السكان. وبدلاً من أن يصبح هؤلاء الشباب رصيداً للبناء عليه في تقدم المجتمع ونهوضه، أصبحوا عبئاً على الكثير من جوانب الحياة، كما تشير إلى ذلك إحصائيات البطالة بين الجامعيين، والتي وصل في بعض الدول العربية إلى 70 في المئة خلال السنوات الأولى بعد تخرجهم. ومن الطبعي والحال هذه أن نجد أن النخبة الحاكمة (من كبار السن) والغالبية الشعبية (من الشباب) تفكران وتتصرفان بطريقتين مختلفتين كلياً. وهكذا أدت فجوة الأجيال هذه، بدلاً من التكامل بين حكمة الكهول وطاقة الشباب، إلى فقدان الاتصال بين السلطة وقاعدتها، وأدى تصلب شرايين السلطة المسنة إلى فقدان القدرة على المرونة والتكيف، وبالتالي تعددت أزمات الحوكمة أو إدارة شؤون المجتمع والسلطة.