لم تعد فزاعة "القاعدة" تنفع بعض الأنظمة العربية لاستمرار الحصول على دعم الغرب لها... ولم يعد التخويف من الجماعات الإسلامية يقنع الغرب بخطورة وجودها وبالتالي الخوف من إمكانية وصولها إلى السلطة... لم تعد الفوضى التي تقول بعض النظم العربية بأنها البديل الحتمي عنها فرضية مقنعة للغرب أيضاً... لم تعد المخاوف من حرب أهلية تؤخذ بعين الاعتبار في الداخل والخارج... كما أصبح واضحاً أن الغرب لم يعد يعتبر أن ثمة دولة عربية حليفة له. لقد أصبح يعيد ترتيب أولوياته مع المنطقة، كما لو أنه يبدأ من الصفر في علاقته مع المجتمعات العربية، بالطبع منطلقاً من مصالحه الاستراتيجية... فالفزاعات العربية احترقت كلها تقريباً فكانت دخاناً لنيران الثورات العربية. لم تعد الأساليب القديمة في الحكم تجدي نفعاً... ولم تعد هناك قواعد ثابتة للعبة السياسية بعد أن تبعثرت جميع الأوراق، ولم تعد هناك محرمات ولم يبق شيء من "المقدسات". الإنسان العربي حطم قيوده وأزاح ما بداخله من خوف وتردد وجبن وتسويف ونفاق... فخرج عاري الصدر لا يرى إلا مستقبله ومستقبل أبنائه وقد قرر أن يرسمه بيديه... ولا يريد إلا تحقيق حلمه الذي صادرته حكومات أخذت الوصاية الكاملة على شعوبها لعقود دون أن تقدم لهذه الشعوب ما تتطلع إليه. الشعوب لا تريد سماع المزيد من الأكاذيب، والشعوب شبعت من الوعود... هذا ما يردده الكثيرون في تلك الدول التي خرج الناس فيها مطالبين بحقوقهم. الشعب لا يريد التراجع بعد أن قدم التضحيات. ومن يعتقد أن الشعب سيرجع من حيث أتى، كما توقع الرئيس اليمني عندما دعا المعتصمين والمحتجين منذ أيام إلى إيقاف المظاهرات كشرط لقبول مطالبه، فهو واهم! فكيف يعود المتظاهرون بعد أكثر من شهرين من الاعتصام وبعد أكثر من عشرات الشهداء وآلاف الجرحى..؟ بعد تلك التضحيات والدماء والضحايا... يبدو أن لغة الكلام قد تغيرت، والسلطة المطلقة انتهت، والحقبة التي كانت تأمر فيها السلطة شعبها فيطيع الأوامر بلا نقاش، قد ولّى زمنها. لا ينفع النظر إلى الوراء أو التفكير في العودة إلى الخلف، هذا تضييع للوقت والجهد. من يريد اجتياز مرحلة التغيير هذه بأقل الأضرار عليه أن يبدأ بالتغيير أيضاً. إن أصعب شيء على الإنسان هو أن يغير أو يتغير، لكن التغيير قد يكون مطلباً ملحاً في بعض الأحيان من الاستمرار والحفاظ على البقاء. والحقيقة أن أغلب الدول العربية تشترك في شيء واحد هو "الفساد" بأشكاله وأنواعه ومستوياته، والذي يدفع ثمنه الشعب، لذا لم يستغرب الناس حين رأوا الثورة الشعبية تنتقل من بلد إلى آخر! من لم تصله عاصفة التغيير ما يزال يملك فرصة لتدارك نفسه وللتعلم مِن أخطاء مَن سبقوه. وينبغي أن يكون الهدف الرئيسي هو أن لا تصل الشعوب إلى مرحلة الثورة والخروج إلى الشارع للمطالبة بحقوقها، فاستباق الأمور واستيعاب مطالب الشارع أمر مهم جداً. أغلب الأنظمة العربية لا تريد الفهم، والقناعة الذهبية عند الغالبية أنهم "غير" وأن الوضع في بلدانهم مختلف عمن سبقهم، فقد قالوها في مصر ثم ليبيا ثم اليمن والآن في سوريا، لكن الواقع يقول إن أغلبية الأنظمة متشابهة وأنها معرضة لنفس الواقع، لذا يمكن من الآن التعامل مع الواقع بشكل مختلف حتى يتغير المصير. لا يمكن تغيير الواقع، لكن من الممكن تغيير المصير عبر التعامل العقلاني مع متغيرات المنطقة. ثمة دول عربية مضطربة هذه الأيام على رأسها ليبيا التي تشهد حرباً شعواء بين القوات الموالية للقذافي والثائرين على نظام حكمه. والوضع في ليبيا يحتاج، بالإضافة إلى التدخل العسكري الدولي، إلى خطوات سياسية عربية ودولية على رأسها الاعتراف الدولي بالمجلس الوطني الانتقالي، ودعم احتياجاته، ويفترض أن يؤدي ذلك إلى تصدع نظام باب العزيزية من الداخل وإلى تخلي من بقي من أتباعه عنه، وبالتالي التعجيل بإنهاء الحرب التي راح ضحيتها الآلاف في أقل من شهرين. الدولة الثانية هي اليمن التي أثبت شعبها أنه متحضر ومسالم، وأن ثورته سلمية ومطالبه شرعية. واليمن أيضاً يحتاج إلى من يقنع نظام علي عبدالله صالح بأن وقت التغيير قد حان وأن عليه أن يحقن دماء اليمنيين، فما حدث من قتل خلال الأسابيع الأخيرة على أيدي رجال الأمن يجب أن لا يتكرر. لقد فعل صالح كل ما بوسعه لليمن، ولا يبدو أن لديه المزيد كي يقدمه، لذا فإفساح المجال لآخرين كي يديروا شؤون البلاد يبدو أمراً منطقياً. أما الدولة الأخرى التي انفجرت فيها الثورة مؤخراً فهي سوريا، والتي نتمنى أن يستوعب نظامها بقيادة رئيسه الشاب، أن رياح التغيير وصلت ارض الشام، وأن تجاهل مطالب الشعب لن يكون مفيداً، وتدارك ثورة كبيرة على الأرض السورية لن يكون إلا بتغييرات وإصلاحات حقيقية، وهذا ما لم يحدث منه شيء حتى هذه الساعة. فالخطاب السابق يتم تكريسه، والنظام ما يزال مصراً على النظر إلى المرآة لرؤية ذاته وليس لرؤية الواقع!