كنا نظن الأيام التي يمكن للغوغاء فيها أن يخربوا العلاقة بين دولتين عربيتين بعد مباراة رياضية قد ولت، لكن التطورات التي وقعت على أرض استاد القاهرة يوم السبت الماضي أثبتت أننا تفاءلنا أكثر مما ينبغي، ومع ذلك فإن التطورات الجذرية التي وقعت في مصر في شهري يناير وفبراير الماضيين قد طوقت قدرة الغوغاء على الفعل. كانت المناسبة هي مباراة الإياب في لقاء ناديي "الزمالك" المصري و"الأفريقي" التونسي في بطولة دوري أبطال أفريقيا. اقتربت المباراة من نهايتها ولم تتبق سوى دقائق فإذا بالآلاف من مشجعي الزمالك يقتحمون الملعب احتجاجاً على هدف لم يحتسبه الحكم لصالحهم، وكذلك على إغفاله ضربة جزاء لصالح نادي الزمالك. اتجهت الجماهير إلى طاقم الحكام الجزائري للاعتداء عليه، فيما اتجه قسم منهم إلى لاعبي الأفريقي التونسي للهدف نفسه، فيما اتجه قسم ثالث لتخريب منشآت الاستاد، وهذا لغز آخر في الموضوع. إذ ما شأن التحيز لنادي الزمالك بتخريب منشآت وطنية؟ تم احتجاز اللاعبين وطاقم الحكام في غرفة تغيير الملابس إلى أن حضرت قوات الجيش وفرضت سيطرتها، ليبقى السؤال كبيراً وغامضاً: ما سبب هذا الغياب الأمني ودلالته؟ عشنا سنوات طويلة مملة كنا نمسك فيها برؤوسنا قبل كل مباراة كرة قدم بين بلدين عربيين شقيقين، وبالذات بين مصر والفرق المغاربية، وكان المعتاد أن يتهم بعضنا بعضاً بسلوك غير أخلاقي وغير حضاري أثناء المباراة، الأمر الذي أدى غير مرة إلى الإساءة البالغة لعلاقة بين دولتين وشعبين عربيين، مع ملاحظة أن معظم النظم الحاكمة كان يشارك في هذه الأحداث بل ويعززها، وذلك لسبب واضح وهو أن هذه النظم كانت في المعتاد غارقة في الفشل السياسي والاقتصادي، وكان يلائم مصالحها كثيراً أن تتلهى الشعوب بإنجازات كروية لا معنى ولا مكاناً لها بلغة التنمية الشاملة، وهو ما أدى إلى الإساءة البالغة للعلاقات العربية-العربية خاصة إذا انبرى الحاكم لتأييد موقف الغوغاء في بلده، وما مباريات مصر والجزائر ومصر وبعض من أهم دول المغرب العربي في السنوات الأخيرة ببعيدة. ثم جاءت التطورات السياسية الأخيرة في مصر اعتباراً من يناير الماضي لتغير الصورة جذرياً، وبدا ذلك واضحاً في العلاقات المصرية-التونسية تحديداً التي كثيراً ما شهدت "فورات" رياضية، خاصة مع تقارب مستوى البلدين رياضياً مما يعني أن أحداً منهما لن يحتكر إحراز الانتصارات على الآخر، وأن فرص الفوز دائماً من حق الجميع. بدأت معالم اللوحة الجميلة الجديدة تتضح بالتأييد القوي الذي منحه شباب مصر للشباب التونسي في ثورته من أجل الكرامة، ثم في مظاهرة التهنئة التي شارك فيها مئات من الشباب المصري أمام السفارة التونسية بالقاهرة بعد أن نجحت الثورة في تحقيق هدفها الرئيس وهو إسقاط حكم زين العابدين بن علي، ثم –وهذا هو الأهم- في الاقتداء بنهج الثورة التونسية وتطبيقه بنجاح بالغ في الساحة السياسية المصرية، ثم في رفع الأعلام التونسية جنباً إلى جنب مع الأعلام المصرية أثناء الثورة في مصر والمزج بين علمي البلدين في علم واحد إلى آخر هذه المظاهر الإيجابية، وعندما نجحت الثورة في مصر لم يختلف رد الفعل التونسي بحال عن نظيره المصري فيما يتعلق بنجاح الثورة التونسية، بالإضافة إلى الدور الإنساني الرفيع الذي قام به الشعب التونسي باستضافة أشقائهم المصريين الفارين من ليبيا. باختصار عشنا حلماً جميلاً زاد من روعته أن الجماهير الكروية حملت في بعض المباريات لافتات ذات دلالة سياسية واضحة تتحدث عن جمهورية شمال أفريقيا الديمقراطية –والمقصود هو تونس وليبيا التي كانت أحداث الثورة قد بدأت فيها ومصر- وكان هذا يعني أن الجماهير العربية بما فيها الجماهير المصرية قد سُيِسَت إلى العظم بعد أن عاشت عقوداً لا تعرف شيئاً عن السياسة بالمفهوم العلمي للكلمة، إذ لم يكن لنشاطها أي مردود يشير إلى جدوى الاهتمام بالسياسة ناهيك عن العمل بها. ثم حدثت وقائع يوم السبت الماضي التي سبقت الإشارة إليها، ومن الأهمية بمكان أنه كان من الممكن في ظل النظام القديم قلب المائدة بحيث يصبح النادي "الأفريقي" أو الحكم هم المتسببون في أحداث الشغب، فيما كان سلوك البسطاء مجرد رد فعل لما وقع عليهم من اعتداءات. لكن رد الفعل المصري هذه المرة اختلف عن جميع ردود الفعل السابقة ببساطة لأن مصر تغيرت. وجاء هذا التغير شاملاً على الصعيدين غير الرسمي والرسمي، فعلى الصعيد غير الرسمي خرجت كافة الصحف المصرية في اليوم التالي تتحدث في عبارات حاسمة عن الجريمة التي ارتكبها مشجعو الزمالك: "مهزلة وفضيحة أخلاقية"، "يوم أسود في تاريخ الكرة المصرية"، "مهزلة غير مسبوقة في غياب الأمن"، "بلطجة كروية وسمعة مصر في خطر"، ثم عرفنا في المساء وبعد حوالي ثلاث ساعات فحسب من هذه المهزلة وأثناء برنامج تليفزيوني شهير كان يستضيف وزير الخارجية أنه قد قدم اعتذاراً مصرياً رسمياً إلى نظيره التونسي، وأن الرجل تفهم الأمر، وفوجئنا بمكالمة هاتفية في البرنامج نفسه من رئيس الوزراء في مصر يدين فيها ما وقع ويقدم اعتذاراً رسمياً للحكومة والشعب التونسيين وكذلك للاعبي النادي "الأفريقي" التونسي. وبعدها توالت الاعتذارات المصرية الرسمية وغير الرسمية لشعب تونس وحكومته من وزير الداخلية المصري ورئيس جهاز الرياضة ورئيس اتحاد كرة القدم المصري وقائمة أخرى طويلة، وبدت مصر رغم كل هذه الاعتذارات كبيرة باعترافها دون مواربة بالخطأ الذي وقع فيه نفر من أبنائها، وقيامها بما يتعين عليها القيام به في ظرف كهذا. وثمة تفسيران لما وقع يركز الأول على أنه شغب كروي عادي وإن تجاوز الحدود، خاصة وأن المدير الفني للكرة بنادي الزمالك وشقيقه متهمان بتحريض جماهيرهما منذ ما قبل المباراة على النزول إلى أرض الملعب كما فعلت الجماهير التونسية في مباراة الذهاب بتونس، وهي مقارنة ظالمة بكل المقاييس، بل إن ثمة صوراً وأشرطة فيديو التقطت لشقيق المدير الفني وهو يحرض الجماهير على النزول للملعب. أما التفسير الثاني فينظر إلى تلك الأحداث المؤسفة من منظور الأعمال المضادة للثورة، بمعنى أنها دبرت بحيث تظهر مصر بلداً ضعيفاً غير مستقر وغير قادر على حفظ النظام فيه، ناهيك عن تدمير منشآت الاستاد الوطني دون مبرر. وأياً كان التفسير الأصح –وقد يكون كلا التفسيرين صحيحاً- فلابد من عقاب رادع لكل من يريد على هذا النحو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وسوف تمضي مصر الجديدة بإذن الله في طريقها مستندة إلى سياسة خارجية عاقلة وجسورة في الوقت نفسه كما يستشف من تصريحات وزير خارجيتها القدير الدكتور نبيل العربي، فهي بالتأكيد دولة تحترم التزاماتها الدولية، ولكنها لا ترى في هذه الالتزامات أي مبرر لتدليل أحد أو لارتكاب أعمال منافية للقانون الدولي. دولة ترى لنفسها مع غيرها من شقيقاتها العربيات دوراً ومسؤولية في الانتقال بالوطن العربي من مرحلة الفوران التي يمر بها إلى مرحلة من الاستقرار المبني على الديمقراطية والازدهار الاقتصادي. وساعتها سوف يكون العرب نداً لكافة القوى الإقليمية والدولية التي تريد لهم سوء المصير.