قالت هيلاري وهي تقدمه للصحفيين: "هذه مرحلة حاسمة في تاريخ السودان"، أما أوباما فأشاد بمهاراته الدبلوماسية وخبرته الطويلة في إفريقيا، مُؤملاً أن يساعد على "دفع المصالح الأميركية وطموحات الشعب السوداني إلى الأمام". يتعلق الأمر بالدبلوماسي الأميركي المخضرم برينستون ليمان الذي عينه أوباما يوم الخميس الماضي مبعوثاً خاصاً له إلى السودان، وقد سافر أول أمس السبت إلى السودان وإثيوبيا لحضور اجتماعات هناك، قائلاً إنه سيحث أطرافها على التوصل إلى اتفاق بشأن المسائل الخلافية والقضايا العالقة، والتي يتعين حلها خلال أقل من مائة يوم، أي بحلول التاسع من يوليو القادم عندما يصبح جنوب السودان دولة مستقلة بشكل كامل. ويعتبر برينسيتون ليمان، المكلف بقيادة عملية تقول واشنطن إنها قد تثمر تطبيعاً كاملاً لعلاقاتها بالخرطوم إذا ما عملت الأخيرة على تطبيق اتفاق سلام "نيفاشا" وتحسين الأوضاع في دارفور، من أبرز الدبلوماسيين الأميركيين في القارة الإفريقية، إذ سبق أن شغل منصب سفير الولايات المتحدة في كل من نيجيريا وجنوب إفريقيا، كما عمل مساعداً لوزير الخارجية لشؤون المنظمات الدولية. وهو عضو في الأكاديمية الدبلوماسية الأميركية بمعهد "أسبو"، وعضو بارز في دراسات السياسة الإفريقية بمجلس العلاقات الخارجية التابع للكونجرس الأميركي. وقد ولد في سان فرانسيسكو بكاليفورنيا عام 1935، وحصل على شهادة الليسانس في العلوم الاقتصادية والسياسية من جامعة كاليفورنيا، ثم على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد، وبدأ حياته المهنية قبل أربعين عاماً كموظف في وزارة الخارجية الأميركية إلى أن تقاعد منها في مطلع العام الماضي. لكن نظراً لخبرته الإفريقية الطويلة، وبصفة خاصة في جنوب إفريقيا (1992 -1995) خلال مرحلة الانتقال السلمي من الآبارتايد إلى النظام الديمقراطي، فقد استدعته الإدارة الأميركية في سبتمبر الماضي لمساعدة شريكي الحكم في السودان، "الحركة الشعبية" وحزب "المؤتمر الوطني"، على تنفيذ ما تبقى من اتفاقية "نيفاشا" للسلام الشامل الموقعة عام 2005. وخلال بضعة أيام إثر تعيينه كان أحد أبرز الوجوه المشاركة في اجتماعات نيويورك بين الشريكين السودانيين برعاية أمين عام الأمم المتحدة ورئيس الولايات المتحدة. ومما قاله ليمان يومها إن "هناك قرارات صعبة وشاقة، لكن يجب اتخاذها، وسوف ندعم السودان في اتخاذها"، كما شدد على ضرورة قيام الاستفتاء في موعده المحدد بمطلع يناير الماضي. وعلى خلفية الظهور الذي انتزعه ليمان لنفسه في ذلك المؤتمر، تساءل الصحفيون الأميركيون عما إذا كان سيحل محل جريشن الذي سبق أن ذكرت مصادر إعلامية في حينه نية أوباما الاستغناء عنه خلال الأسابيع التالية... لكن ليمان نفى رغبته في أن يصبح مبعوثاً إلى السودان، وقال إن "آخرين سوف يقومون بتلك الوظيفة"، ثم أضاف: "سوف أعمل فقط على تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وسوف أترك للآخرين التعامل مع ما تبقى من القضايا الأخرى". لكن تلك "القضايا الأخرى" هي تحديداً ما أخذ يتعامل معه ليمان منذ السبت الماضي، وفي مقدمتها الحدود وأبيي والمواطنة والنفط. وفي سبيل ذلك، بدأ مبعوث الرئيس الأميركي الجديد مهمته بالمشاركة في مباحثات عقدت أول أمس السبت في أثيوبيا حول الأمن في السودان، ثم أجرى أمس الأحد لقاءات مع كبار المسؤولين في الخرطوم بشأن قضايا الشمال والجنوب ودارفور، قبل أن يتوجه إلى مدينة جوبا للاجتماع بعدد من المسؤولين والتباحث هناك مع رئيس حكومة الجنوب. وبعد ذلك من المقرر أن يعود ليمان إلى إثيوبيا لحضور محادثات تتعلق بالترتيبات الاقتصادية بين شمال السودان وجنوبه في مرحلة ما بعد استفتاء المصير. ورغم التعقيد الذي يطبع "القضايا" العالقة عامة، فإن معضلة المعضلات أمام ليمان خلال الأيام المتبقية على إعلان دولة الجنوب، تبقى هي قضية أبيي التي شهدت في الآونة الأخيرة صدامات دموية بين القبائل الشمالية والجنوبية، والتي من المقرر أن تعرف استفتاءً يحدد ما إذا كانت ستتبع للشمال أم للجنوب، لكن الاستفتاء بذاته يمثل مصدر خلاف بين الخرطوم وجوبا، لاسيما حول حدود المنطقة، ومن تحق له المشاركة في الاستفتاء. وسيواجه ليمان معضلة عويصة أخرى، ألا وهي نقص الثقة لدى السودانيين إزاء أميركا، لاسيما من واقع خبرة الأشهر الأخيرة الماضية، حيث وعدت واشنطن بإلغاء العقوبات على الخرطوم وبتطبيع شامل بين الجانبين، إذا ما تخلى السودان عن شروطه وتحفظاته على استفتاء تقرير المصير وقام بما يكفي من أجل تسهيل إجرائه، وبالفعل فقد أُجري الاستفتاء في الظروف المرضية لواشنطن، لكن هذه الأخيرة اكتفت بالتأكيد على "تحضر الشعب السوداني"، دون أي ذكر لدور حكومته في ذلك "الاستفتاء المثير للإعجاب" أو أي إشارة إلى إمكانية رفع العقوبات عنها قريباً. ورغم أنه ما عادت اليوم ثمة أوراق كثيرة بيد الخرطوم لعرقلة الأجندة الأميركية في السودان، لاسيما لجهة انفصال الجنوب الذي أصبح واقعاً، فإن ترسبات الخبرة السابقة ومراراتها الماثلة لن تساعد بالقطع على تسهيل مهمة ليمان فيما يتعلق بالقضايا التي تنتظر التفاوض عليها بين "المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية". وربما لتحييد المشاعر السلبية وآثار الخبرة المذكورة، قامت واشنطن بإبعاد جريشن سفيراً في نيروبي، بعد أن كان القناة الأساسية التي مرت من خلالها الوعود والالتزامات الأميركية تجاه نظام الخرطوم، وكان يمثل تيار الحمائم الأميركي في الملف السوداني... وجاء محله بليمان كي ينطلق من بداية صفرية في مرحلة ما بعد الاستفتاء، متحرراً من أعباء التزامات ما قبل الحدث الفارق، وملتفتاً نحو ملفات المرحلة الحالية كما فرضها من يملك الإمكانية لذلك، والتي يبدو أن ليمان أراد أن يتحدى نفسه بإعلان ضرورة حلها قبل أن يُدق جرس ميلاد دولة الجنوب السوداني... فيالها من "مرحلة تاريخية" سودانية حاسمة، تتأسس أميركياً على خبرة إفريقية بحتة! محمد ولد المنى