تبعث حالات الاضطراب في ساحل العاج من ناحية والانتفاضة الليبية من ناحية أخرى برسائل مختلفة نسبيا عن طبيعة النظام الإقليمي الذي تتوقف عنده أفريقيا، وكذا "النظام العالمي" الذي يفرض نفسه على العرب. وفي لحظات سابقة من التاريخ، كنا نتساءل هل الموقف الداخلي هو الذي يطور العلاقات الدولية أم أن "النظام العالمي"، هو الذي تتخلق على يديه الأوضاع الداخلية؟ ويبدو أن السؤال مازال مطروحاً بدرجة أو أخرى؛ فها هي تطورات الصراع في ساحل العاج، حول ثروات كالكاكاو والاستثمارات الرأسمالية بالمنطقة بما تتيحه من فرص العمل والهجرة إليها.. الخ تؤدي إلى تحركات متباطئة على المستوى الإقليمي الأفريقي، منتظرة قدراً من الحسم الداخلي للموقف. وفي مثل هذا الإطار ينفع الابقاء على إطار "النظام الإقليمي" الأفريقي. كنظام يحترم قواعد اللعبة الداخلية قطرياً وإقليمياً- كما قد نرى بعد- بل وقد يجعل "أصحاب أفريقيا" أكثر تفاؤلًا بمستقبل مختلف لأبناء القارة لو استمر تقدمهم على هذا النحو. أما الحالة الليبية فقد انتقلت سريعاً بالنظام العربي- الإقليمي إلى ساحة "النظام العالمي"، حتى لو دارت خجلها ببعض قواعد "القانون الدولي".. وبقى السؤال عما إذا كانت حالة ليبيا الداخلية؛ قيادة، وموقعاً، ومصالح هي التي قفزت سريعاً بحالتها إلى "النظام العالمي"، أم أنها حالة "النظام العربي" المستدامة في "التهرؤ أو الوهن هي التي لم تجعل للمحلي أو الإقليمي ذلك الوزن الذي توفر للحالة الأفريقية؟ لست هنا بصدد المعالجة العربية للحالة الليبية، فسلوك القيادة الليبية الذي اتسم طول الوقت باللامعقولية، واختفاء أية معرفة سابقة جيدة بالتفاعلات الاجتماعية والسياسية في هذا المجتمع التاريخي رغم ضجيجه الإعلامي، جعل موقعه في النظام العربي الإقليمي بعيداً عن إمكانيات التصور، ولم يتح لانتفاضة الشعب الليبي مكانة واضحة بين التعريفات الممكنة "للانتفاضة" أو "الثورة" أو التمرد. وفي هذه الضبابية التي تجعلنا أمام "الكر" و"الفر" على مدى اليوم الواحد، وفق "عمليات عسكرية" متبادلة، لا يستطيع المرء أن يتصور طبيعة المعالجة للموقف بهذه العسكرة التي تخفي الكثير وراء تلك المظلة الدولية التي تضع ليبيا مباشرة في إطار "النظام العالمي" للمصالح والمواقع والأدوار، وتجعل العرب مجرد جزء أو طرف في نظام عالمي لم يشاركوا في صنعه. وكان الأولى بسمات "النظام الإقليمي" المتكامل بين العرب بحكم ما يمتلكون من إمكانيات مادية، وأفضليات تاريخية واجتماعية، أن تكون هي الفاعلة، وهو ما ينتبه له عديد من الكتاب الأفارقة الذين نقرأ لهم كل يوم تقريباً عن أثر ثورة تونس ومصر، بل والانتفاضات العربية العارمة على هذا النطاق القومي الملحوظ. ولنبقى في الدرس الأفريقي الذي كثيراً ما يتجاهله المثقفون العرب مع أنه يدفع كل يوم برسالة جديدة لمن يتأمله في المنطقة العربية التي لا تستطيع الحركة إلا في إطار الالتحاق "بالنظام العالمي"... فرغم أن حركة الوحدة الأفريقية قرينة الوحدة العربية منذ نهوضها في القرن العشرين، فإن الدوائر الأفريقية المثقفة أو الحاكمة. لا تجعل منها غطاء لإدعاءات أي طرف في القارة، لذا فإنه حين أراد العقيد القذافي أن يلعب بهذه المسألة، وانفق عليها ما أنفق، لم يستجب له أحد إلا في شكليات أرادها لنفسه، لتبقى دول وشعوب القارة عند مفهوم أفريقيا "كإقليم"، ويتعامل مع "العولمة" كإقليم ذي مصالح مع الغير، وحين تأزمت حالة ليبيا لم تصبح نموذجاً للانهيار المعنوي كما يحدث في العالم العربي، عند كل أزمة، وإنما هي في أفريقيا مجرد حالة تطبيق القانون الإقليمي الذي تلتزم به منظمة القارة الإقليمية- الاتحاد الأفريقي. في الإطار السابق، ومع تدهور الحالة الليبية وعدوانية نظامها تجاه شعبها وجبرانها، وسفاهة مفاهيمها في العمل السياسي، اجتمع مجلس السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي، وقرر عدم التدخل "في الشأن الداخلي" للدولة العضو رغم أن دستور الاتحاد يتيح التدخل في "الحالات الخطرة"، كما قرر إرسال وفد رئاسي لحوار المتصارعين (صعب وصوله). وأعقب ذلك في الأسبوع الأخير من مارس 2011 اجتماع محكمة حقوق الإنسان والشعوب التابعة للاتحاد الأفريقي، وأصدرت لأول مرة حكمها "بإدانة دولة عضو هي ليبيا- أي ممارسة الحق الجماعي للشعوب وليس للأفراد فقط- وذلك بسبب إدعاءات مقدمة من منظمات حقوقية أفريقية- إحداها مصرية- تتهم النظام الليبي بانتهاك حقوق الليبيين الجسدية والإنسانية منذ 16 فبراير 2011 وقتل أفراد وإغلاق مصادر المعرفة.. الخ وألزمت الدولة الليبية بوقف ذلك، والرد على الاتهامات خلال أسبوعين من صدور القرار. وقد اقترن بالموقف الأفريقي من ليبيا موقف آخر تجاه المجلس العسكري الحاكم في مصر، يحذره من إمكانية حجب عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي وفق مبدأ عدم الاعتراف بالنظم العسكرية وحكم العسكريين عبر الانقلاب، وأوقف الإجراء بناء على شرح التطورات المتسارعة في مصر نحو الحكم المدني! ويدفع الاتحاد الأفريقي إعلامياً طوال الوقت بموقفه شبه المحايد في ساحل العاج، حيث رفض أعضاؤه التدخل العسكري، الذي تدفع إليه فرنسا والدول الغربية لصالح "الحسن وترا"، تاركة الأمر للنظام الإقليمي الفرعي لغرب أفريقيا (منظمة الإيكواس)، وفي قيادته نيجيريا، القوية عسكرياً. حيث توقف الاتحاد عند إرسال وفود الوساطة. ويبدو أن الدول الغربية لم يعجبها هذا الموقف المتردد، حيث ترد الأخبار عن دعم "القوى الموالية" للتدخل الغربي بالسلاح للزحف على العاصمة الدبلوماسية (ياما سوكرو) والعاصمة التاريخية (أبيدجان) بسبب فشل الوساطات أو الاستفادة من نموذج التدخل المباشر في ليبيا. هنا يكاد السلوك العولمي أن يكون هو السائد في حالة ليبيا وساحل العاج مع فارق أساسي هو محددات "الدور الإقليمي" الذي يلتزم به الطرف الأفريقي، بينما يسلم النظام العربي نفسه بسرعة للآلة العالمية. لا أعرف إذا كان عليّ أن أؤكد أن ما قلته ليس من باب ذكر مثالية الواقع الأفريقي أمام العربي، فهذا ما يصعب الدفع به إزاء اعتراف الكتاب الأفارقة أنفسهم بحسرتهم على الموقف العربي الذي لا يستفيد من مميزاته (انظر مواقع: فاهامو- بمبازوكا الأفريقي مثالاً)، ولكن ما ذكرته يشير إلى الحالة المؤلمة للنظم العربية التى تعيش أشكالًا من الاستبداد تكاد تختفي من القارة الأفريقية، الأمر الذي فجر كل هذه الثورات الأخيرة. وبدلًا من أن يحيي ذلك حالة إقليمية ذات معنى فقد دفعت بنا الحالة الليبية، وتكاد الحالة اليمنية، إلى ترسيخ البقاء في النظام العالمي بدلًا من أن تدفع بنا الثورات الشعبية العارمة "لخلق مسافة مع هذا النظام الكاسح. إن أفريقيا نفسها لم تفلت بالطبع من "النظام العالمي" بهذا الحفاظ على بعض وظائف النظام الإقليمي، لكن أشعر بأن "الحالة الديمقراطية" الأفضل على المستوى الأفريقي تخدم في هذا الاتجاه. أما جوهر الحقيقة في عصر العولمة فقادت إلى تنشيط إلى دور "الأفريكوم- القيادة الأميركية العسكرية- حالياً في أفريقيا- لتنظيم عمليات التسلل من الصومال إلى ساحل العاج.. إلى ما يتردد عن وصولها لليبيا لتصبح مساهمة نظام العقيد في النظام الأفريقي.. سيئة أكثر وأكثر.