في خضم حركات الاحتجاجات التي عصفت بالعالم العربي مؤخراً من محيطه إلى خليجه، طغت على المشهد مجموعة من المفردات والهتافات والعبارات والشعارات التي لئن كانت معروفة، فإنها لم تدخل القاموس السياسي العربي من قبل. البداية لم تكن من تونس، التي انطلقت منها موجة الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بن علي، وإنما من مصر التي وهب الله شعبها موهبة إطلاق الطرفة السريعة، والنكتة اللمـّاحة وتدبيج الشعارات بمهارة فائقة، سواء في السراء أو الضراء. فالمصريون مثلاً هم أول من استخدموا مفردة "البلطجية" حينما داهمت الجمال والخيول تظاهراتهم في ميدان التحرير بوسط القاهرة، فقالوا عن مرتكبيها إنهم من "بلطجية" النظام الحاكم. و"البلطجة" لغة هي فعل يراد به الاستقواء على الآخرين بالعنف المجسد في الحجارة والهراوات والعصي وما شابهها. و"البلطجي" هو من يعتمد على ساعده وقوته البدنية لترويع وتهديد خصومه، وحشرهم في الزاوية، وصولاً لانتزاع مكاسب منهم بالقوة. وتقابل المفردتين السابقتين في اللغة الإنجليزي "بوليينج" و"بوليير" على التوالي. ولعل الكثيرين يتذكرون أنه كان لـ "البلطجة" و"البلطجية" حضوراًِ قوياً في مدارس أيام زمان، وربما في مدارس هذه الأيام أيضاً. ففي كل صف دراسي في الماضي كان هناك من هو أكبر سناً وأقوى بنية من الآخرين. هؤلاء دأبوا على استغلال مواصفاتهم تلك لترهيب من هم أصغر منهم سناً أو أضعف بدناً، وتوجيههم إلى الجهة التي يريدونها، بل وانتزاع ما ليس لهم حق فيه تحت طائلة تصيدهم والاستفراد بهم في "الهدة" أي بعد انتهاء الدوام المدرسي، والخروج من المدرسة. وعلى المنوال المصري، ردد متظاهرو اليمن وليبيا والأردن وسوريا والعراق المفردتين المذكورتين للقول بأن هناك من يتربص بهم، وإنهم ضحايا لأنظمتهم السياسية المستقوية بـ "البلطجية". أما في ما خص الشعارات والهتافات التي صاحبت الاحتجاجات والاعتصامات، فهي الأخرى خرجت ابتداء من مصر لتنتقل إلى غيرها مثل انتقال النار في الهشيم. وكان أكثر هذه الشعارات ترديداً وتداولًا هو شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، الذي أضفى عليه الآخرون خارج مصر لمساتهم الخاصة المتفقة مع أوضاعهم المختلفة، في ظاهرة كشفت وأقامت الدليل على مدى اختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتباين المطالب من قطر عربي إلى آخر. ففي ليبيا استبدله أتباع نظام القذافي بهتاف "الشعب يريد بقاء معمـّر العقيد"، فيما ردد معارضو العقيد شعار "الشعب يريد علاج العقيد"، "أو الشعب يريد تفسير خطاب العقيد". وفي العراق هتف المتظاهرون "الشعب يريد محاربة الفساد" أو "الشعب يريد فانوس كهرب". وفي اليمن استبدله الموالون للنظام بشعار "الشعب يريد استمرار الرئيس"، وفي سلطنة عمان سمعنا هتاف "الشعب يريد إقصاء الوزراء الفاسدين"، وهو ما استجاب له السلطان قابوس بسرعة قياسية حينما أقال عدداً من وزرائه. أما في البحرين فقد ردد المعتصمون في "دوار اللؤلؤة" في بداية الأمر شعار "الشعب يريد إصلاح النظام"، قبل أن يختطف المتشددون والمتطرفون، من أصحاب الجمعيات السياسية غير المرخصة، الدوار ومن به، ويجيرونه لصالح أجندتهم التدميرية المتماهية مع مخططات قوى إقليمية شريرة، ويخرجوا علينا بشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، فيما كان المحتشدون في "جامع الفاتح" بقيادة الشيخ "عبداللطيف المحمود" يردون بهتاف "الشعب يريد إزالة الدوار"، وهو ما تحقق لاحقاً ليزول إلى الأبد من الذاكرة الجمعية البحرينية مشهد غريب ودخيل على مجتمعات الخليج والجزيرة العربية. وفي موازاة كل هذا أنتجت الأحداث المتسارعة في طول العالم العربي وعرضه ما يمكن تسميته بغابة من الشعارات والقفشات الفكاهية التي تصلح لتكون مادة لمؤلف ضخم في علم الاجتماع السياسي أو دراسة شاملة لسيكولوجية الشعوب العربية. ولعل أطرف ما وقعت عيناي عليه بطاقة مبتكرة من وحي الخطاب المتشنج الأول لحاكم ليبيا، تتضمن دعوة لحضور حفل زواج. تصدرت تلك البطاقة عبارة "لا للعزوبية بعد اليوم.. لا للافتراق بعد الآن .. لا للعودة إلى الوراء .. تقدموا إلى الأمام .. غنوا، افرحوا، ارقصوا"، لتتلوها عبارة "فلان الفلاني يدعوكم فرداً فرداً، داراً داراً، زنقة زنقة، لحضور حفل عقد قران ابنه فلان على ابنة علان". لا أعلم من بتكر هذه الطرفة، لكني أعتقد أنها من بنات أفكار الأشقاء المصريين الذين وجدوا في ما يجري في جارتهم الليبية فرصة للتعليق الساخر، ومنه "إن خيار التنحي بالنسبة للعقيد هو خيار مخلل"، و"إن التلفزيون الليبي يهدد المعارضة بإعادة عرض الخطاب الأول للعقيد عشرات المرات في اليوم إن لم تسارع للاستسلام ورمي السلاح"، و"إن منظمة اليونسكو تطالب بالمحافظة على حياة العقيد لأنه من الكائنات النادرة"، و"إن الأمم المتحدة تطالب المتظاهرين في ليبيا بالاستسلام، لأن العالم لا يتحمل خطابا آخر من العقيد". ولا يكتمل الحديث دون العودة إلى مفردتي "بلطجة" و"بلطجية" اللتين لم تعدا فقط مجرد وصف أو هتاف يرددهما المحتجون والمتظاهرون العرب ضد خصومهم، وإنما صارا أيضاً من ضمن شعارات التخوين التي تتردد في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ضد كل من لا يتفق مع هذه الجهة أو تلك في الرأي والفكر والنهج السياسي، بل تجاوز ذلك إلى استصدار ما سماه أصحابه بـ"قوائم العار" التي ضمت أسماء صحفيين وفنانين وأصحاب أقلام معروفين، كل جرمهم إنهم استخدموا حقهم المشروع في التعبير عن الرأي المخالف لرأي المحتجين، وذلك على نحو ما حدث في البحرين والكويت، وربما في مصر، بل وأيضا في المملكة العربية السعودية، حيث تعرضت – ولا تزال تتعرض – الروائية والكاتبة "سمر المقرن" إلى حملات تشهير إلكترونية ممنهجة من قبل أشخاص معروفين، وآخرين مغمورين، بسبب مواقفها المعلنة ضد القوى والتنظيمات الأجنبية التي لا تريد الخير والسلام، والأمن والاستقرار، والنماء والنهضة لدول منظومة مجلس التعاون الخليجي. ألا يفهم هؤلاء أنهم بهكذا مواقف وأعمال شائنة يسلبون "الديمقراطية" التي ينشدونها ويتشدقون بها أحد أهم أركانها ومفاصلها؟ د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي من البحرين الإيميل: elmadani@batelco.com.bh