الثورات العربية التي شغلت العرب والشرق والغرب لا يمكن استيعاب أبعادها وزخمها وعمقها ومستقبلها دون أن نستوعب دور وتأثير قوة الإعلام والتواصل الاجتماعي وأهميته في حمل وحماية ونشر أول ثورة رقمية في التاريخ المعاصر، والتي تتفجر أمامنا في تغطية إعلامية على مدار الساعة، لاسيما عن طريق شبكات الأخبار ووسائط التواصل الاجتماعي التي تمطرك بالأخبار العاجلة والمتواصلة بلا توقف. ضربت الثورات العربية ولا تزال تضرب شتات العرب. وقد أطاحت بأنظمة راسخة وثابتة لعقود، قيل عنها حتى قبل سقوطها وتهاويها بأنها آمنة ومستقرة. ووقف العرب والغرب معها مؤيداً وداعماً، لقد قادت الثورات العربية في حالتي تونس ومصر نحو تحول سلمي أدهش بنتائجه حتى أكثر المتفائلين والمراهنين على التغيير بسرعة وسلمية. فقد نجح الروس في قمع ربيع براغ في عام 1968 في تشيكوسلوفاكيا، وقبل ذلك في فرض حصار برلين، دون أن ينجح الطرف الآخر (الولايات وأوروبا) في فضح ما يفعلون أو في تجنيد الأنصار لينتفضوا ضد احتكار السلطة للمعلومات والأخبار ولغياب ثورة الإعلام. الخميني قاد ثورة على صلف وقمع الشاه في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ونجح بسبب قهر وطغيان وأخطاء نظام الشاه. والتفت فئات وشرائح المجتمع الإيراني بمن فيها القوى السياسية والمثقفون والبازار والشباب الذين نجحوا في تفجير ثورة غيرت وجه المنطقة، مستفيدين في ذلك من بدايات الثورة الرقمية، أي "ثورة الكاسيتات" أو أشرطة التسجيل الصوتي. الثورة المعلوماتية هي قوة ناعمة تملكها الدول، لكن أيضاً يملكها الأفراد الذين تحولوا اليوم من متلقين إلى مرسلين وناشرين وناقدين في إطار ما أصبح يعرف بالإعلام التفاعلي. الثورة المعلوماتية مرت خلال الستين عاماً الماضية بخمس مراحل ومحطات حاسمة حتى وصلت لما وصلت إليه. وقد مر تطور مسيرة ثورة المعلومات من باب الصحف إلى الراديو، ومن التلفزيون الرسمي ونشراته الإخبارية وبرامجه المتحنطة التي خدمت وتخدم وتدافع عن الأنظمة بإشراف وزارات الإعلام وخطابها الخشبي، إلى الإعلام الجديد وأجيال القراء التي لم تعد تقرأ صحفاً ورقية بل رقمية، وما عادت صحف الحكومة تعني بالنسبة لها شيئاً ذا بال، بعد أن كانت الوسيلة الوحيدة للأجيال السابقة في تلقي الخبر ونقل المعلومة ومتابعة ما يجري. لنتذكر أن فضيحة ووترغيت التي أجبرت الرئيس الأميركي نيكسون على الاستقالة، إنما فجرتها صحيفة "الواشنطن بوست" العريقة، وليست شبكة أخبار أو موقع إلكتروني. وقد تلا ذلك ظهور التلفزيونات الفضائية ومواقع الإنترنت وأخيراً وسائط التواصل الاجتماعي. وكان دخول الإذاعة والترنزستور على خط الثورة المعلوماتية في بدايتها، قد أفسح المجال لشريحة أكبر من الناس، بمن في ذلك الأميون، للتواصل والتعرف على ما يجري في محيطهم القريب أو البعيد. لكن الثورة الفعلية للمعلومات تفجرت مع دخول عالم الفضائيات ومواقع الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي التي تقوم بتحقيقات جريئة وأحياناً فضائحية كما فعلت القنوات الفضائية بكشفها، قبل تفجر الثورات العربية، الوثائق السرية لمفاوضات السلطة الفلسطينية مع إسرائيل، والتي أدت لاستقالة رئيس دائرة المفاوضات في السلطة. وما فجّره موقع ويكليكس الإلكتروني الشهير الذي كشف عن آلاف البرقيات السرية للدبلوماسيين الأميركيين حول العالم، وأرائهم في حكومات وقادة الدول التي يخدمون فيها، مما أدى إلى إحراج الدبلوماسية الأميركية. كل ذلك أفسح المجال أمام القفزة الثالثة في عالم الثورة المعلوماتية بتوسيع وتعددية في المشهد التلفزيوني بدخول عالم الفضائيات المتخصصة والمتنوعة التي نقلت أول حرب متلفزة في التاريخ، وهي حرب تحرير الكويت، قبل عشرين عاماً، ثم الحرب على العراق كثاني حرب متلفزة في التاريخ، وقبلها حرب أفغانستان، واليوم مجريات الحرب في ليبيا. القفزة الرابعة تمثلت بتفجر الشبكة الأخطبوطية (الإنترنت) الذي خلق عالماً افتراضياً يسبح فيه مليارات الناس على مدار الساعة. ومع دخول محركات البحث، وخاصة "غوغل" الغول الكبير الذي يسبر غور كل موضوع ويساعد كل باحث وكاتب وطالب... أصبح العالم أصغر وأقرب وأكثر قابلية للفهم، مما فتح آفاق حقبة جديدة أعطت الشعوب مزيداً من الحرية والقدرة على الإسهام في عالم المعرفة. القفزة الأخيرة في الثورة المعلوماتية هي المرحلة الأكثر تفاعلاً والأكثر تأثيراً، وقد تمثلت في تحول الإنترنت ووسائطها من مجال لتلقي المعلومة إلى مجال تفاعلي يلعب فيه المتلقي دور المشارك والناقد والمعبر عن أفكاره لمتابعيه ولمعجبيه ولراصديه. وقد تحول مواطنو اليوم، وخاصة شرائح المثقفين والشباب، إلى معلقين ومحللين ونقاد ومراسلين وناشرين للآراء ومتبادلين لأخبار عاجلة عن بلدانهم وعن الدول القريبة والبعيدة، بما في ذلك مقاطع من الفيديو المقابلات والندوات والتصريحات وغيرها. وتحول كل من يحمل في كفه هاتفاً مزوداً بكاميرا إلى مراسل للفضائيات وإلى متلق ومرسل وناشر وموزع... في زيادة لقدرات القوة الناعمة للمواطن وفي تراجع وتآكل لقدرات الدول والأنظمة الشمولية التي رأينا كيف يتهاوى بعضها ويسقط أمام الجيل الشاب المسلح بالعلم والمعرفة والجرأة والسعي للتغيير والباحث والمطلع والناشر. البداية الرقمية كانت بالمدونات والمدونين. ثم تطورت وسائط التواصل الاجتماعي مع الإنترنت المتنقل والهواتف الذكية ومستخدميهم المثقفين والمطلعين الذين أصبحوا لاعبين مؤثرين في دفع الثورات العربية بتسخيرهم تلك الوسائط الاجتماعية، مثل "فيسبوك" و"التويتر"، ليهزوا أنظمة ويحركوا مياهاً راكدة. كم كان سيختلف مسار وسرعة وحيوية وزخم التغيير دون "الفيسبوك" و"التويتر" والفضائيات التلفزيونية ووسائط التواصل الاجتماعي، وفيما لو لم يسلط الإعلام أضواءه على حرق البوعزيزي لنفسه، عبر كاميرات هاتف شاب تونسي، وفيما لو لم يُتح نقل الثورات والصدامات والمواجهات على الهواء مباشرة؟ إنه عصر تمكين الشعوب. إنه عصر الثورات الرقمية، وعلى من يعنيهم الأمر مواكبة هذا العصر واستيعاب قوة التغيير.