يمر العالم العربي حالياً بأزمة محورها العلاقة بين النظم الحاكمة والجماهير، وربما يعود جزء من سبب هذه الأزمة إلى الإدراك الخاطئ من قبل الطرفين للعديد من معاني وأهمية المصطلحات والرموز والمقولات المطروحة. ولا شك أن الإدراك الواعي لمعنى السياسة والحكم والدولة وعلاقة الدين الإسلامي بذلك أمور مهمة تستطيع الدولة الوطنية والمجتمع الاستفادة منها. لكن ماهو حاصل أن الإدراك الواعي لأهمية الجوانب السياسية في أذهان رموز السلطة وأفراد المجتمع غائب، بالإضافة إلى غياب الإدراك الحقيقي لمعنى الدولة الوطنية ذاتها، فهي كمؤسسة مهيمنة تعتبر ذات مفاهيم مختلطة وأيديولوجيات غامضة يصعب إدراكها على الإنسان العادي مثلما يصعب ذلك على النخب السياسية. ورغم تواجد عناصر تقليدية قديمة ضمن الدولة الوطنية القائمة في البلاد العربية، فإنها بصيغها القائمة تعتبر حديثة. وهذا التواجد الحديث ذو محتوى فيه خصوصية قوية، ويعود إلى فترة ما بعد خروج الاستعمار، لذلك فهو ذو عمق تاريخي محدود وأصل ذو أهمية فائقة في التجربة السياسية الحديثة للعرب. هذا المحتوى الجديد تشكل عن طريق ظهور القيادات الفردية ذات المركزية الشديدة، الأمر الذي أدى إلى اكتساب الحياة السياسية في المجتمعات العربية صفة فريدة خاصة بها، وهي صفة تخلت عنها معظم شعوب الأرض في هذه المرحلة من تاريخ العالم المتمدن. وطوال العقود الستة الأخيرة التي مضت، كانت الأيديولوجيات التي تتبناها معظم الأنظمة السياسية التي تحكم دول العالم العربي مشوشة لأنها كانت عبارة عن مزيج مختلط غير واضح المعالم. لقد كانت الوطنية الاشتراكية الثورية هي الأيديولوجية الرسمية في كل من مصر وسوريا والعراق التي حكمتها أنظمة سياسية تواقة إلى إظهار وتأكيد الطبيعة العلمانية للدولة. وفي سياق ذلك، منعت الحركات الإسلامية من ممارسة نشاطاتها السياسية في العلن. وبعد فترة أصبحت الاشتراكية أيديولوجية متبناه من قبل الجزائر واليمن والسودان وإلى حد ما ليبيا. وفي بداية الأمر تبنت الأيديولوجيات الوطنية الاشتراكية التي نادت بها نظم الحكم العربية الجديدة النظرية الماركسية حول الإمبريالية والاستعمار، والبرنامج الماركسي الخاص بملكية الدولة لوسائل الإنتاج، وكامل الثروة الوطنية، وإعادة توزيع الثروة مركزياً في المجتمع. وأدى تصور الدولة الوطنية لمركزية الاقتصاد وتنصيبها لذاتها على أنها الممول الاقتصادي للمجتمع ولها كل الحق في ملكية كافة وسائل الإنتاج الرئيسية والتي تدار مركزياً نيابة عن الجماهير إلى اقترابها من أن تصبح شكلاً جديداً من الملكيات التقليدية وإن كان ذلك تحت مسمى جمهوري. وفي وسط ذلك الخلط والتخبط الأيديولوجي، وعدم الفهم لما هو مطروح، ابتعدت النخب السياسية عن الجماهير وتطلعاتها وأمانيها ومعتقدها الوحيد الذي يشكل محور الحياة اليومية وعصبها، فالجماهير العربية كانت ولا زالت ذات إيمان عميق بالإسلام ومن الصعب جداً أن يبعدها عن ذلك أيديولوجيات غريبة عنها. ومن جانب آخر تمادت بعض نظم الحكم العربية في كبت الحريات ومصادرتها وفي تغييب المساواة في المجتمع، فكانت النتيجة ما نشهده الآن من ثورات عارمة وفوضى سياسية واقتصادية غير خلاقة في أكثر من قطر عربي غابت عنه مسائل الفهم الدقيق للواقع المعاش. دعاؤنا الحار هو أن تخرج الشعوب العربية من ذلك بأقل قدر من الخسائر في الأرواح والأموال. د. عبدالله جمعة الحاج