ثمة خفّة في التعاطي في لبنان على أساس أن ما يجري في البلاد العربية سنكون بمنأى عنه. وأصحاب هذه النظرية ينطلقون من قناعة بأنه إذا كان شعار التحرك في محيطنا الحرية والديمقراطية، أو مواجهة إسرائيل والمشروع الأميركي ولم نسمع مثل هذا الكلام في أي مكان – فإن لبنان هو واحة الحرية والديمقراطية في المنطقة منذ قديم الزمان، والكل كان ولا يزال يتغنى به ويحلم أن يكون مثله، ولبنان هو البلد العربي الوحيد الذي هزم إسرائيل أكثر من مرة وحرر أرضه دون ثمن. هذا صحيح، ولكن الأصح أن في لبنان مشاكل كثيرة ملازمة لمناخ الديمقراطية والحرية، ولعنوان التنوّع، وهو تنوّع "طائفي، ونابعة من خلافات على الهوية والتاريخ ورؤية الحلول في الداخل والعلاقات مع الخارج، وثمة اليوم أزمة ثقة عميقة بين مكوناته وخوف من فتنة لا سيما بين السُنّة والشيعة. إضافة إلى اختياره الدائم الساحة الأضعف لتصدير المشاكل إليه واستعداد أبنائه الدائم أيضاً لتلقف مثل هذه العملية والدخول فيها استناداً إلى العوامل المذكورة. لبنان اليوم هو في قلب العاصفة. الخوف فيه كبير والخوف عليه كبير. وثمة خطأ في التعاطي مع ما يجري في البلاد العربية الشقيقة في ظل الحساسيات المذهبية الكبيرة الموجودة. فنحن لسنا في موضع يسمح لنا أن نكون أطرافاً مباشرين في تلك الأزمات، وقد رأينا كيف أن بعض التصريحات والمواقف والتصرفات انعكست سلباً على اللبنانيين الموجودين في دول شقيقة وبدت ملامح الخوف تظهر على مصالحهم ووجودهم فيها، والشائعات كثيرة حول احتمال تخلي شركات ومؤسسات رسمية وخاصة عن عدد كبير من اللبنانيين سوف يعودون في النهاية حاملين معهم كرهاً أو حقداً في نفوسهم على من أبعدهم أو من سبّب إبعادهم وأزمات إضافية إلى بلدهم الذي يعاني وبسبب معاناته تركوه للعمل في الخارج. يقال عندنا، "الباب الذي يأتيك منه الريح ، سدّه". نحن للأسف نفتح كل الأبواب لكل العواصف والرياح التي تلفح ديارنا وتخلق فيها الأضرار فأين الحكمة في ذلك؟ دور لبنان في هذه المرحلة، الذي مزقته الحروب وأنهكته وخلقت فيه الأزمات المتتالية والكوارث، يجب أن يكون دور المثال. بمعنى دور الذي كوته الحروب والانقسامات الداخلية وتعلم منها ويفعل كل شيء لتفادي تكرارها مهما كانت التضحيات والأثمان. فيتجنب كل ما يمكن أن يؤدي إلى ذلك في الداخل، وانطلاقاً من هذه التجربة والخبرة المريرة يقرأ ما يجري حوله وبعيداً عن الشماتة والانتقام والحقد والكراهية، وكأنه يقول لأشقائه لقد جاء دوركم الآن! فندفع نحن الثمن مرتين. مرة عندما كان دورنا ومرة عندما جاء دور الآخرين ، إذا صحت هذه النظرية، لسبب بسيط؛ إن ما يجري عند غيرنا ستكون له انعكاسات علينا وخصوصاً في محيطنا الأقرب أي في سوريا. هذه هي الجغرافيا السياسية. وهذا هو تكوين وتركيب المنطقة، وهذه هي اللعبة وقواعدها التي إذا لم تكن أميركا هي من رسمها ويديرها، فإنها بالتأكيد القوة الأكبر والأقدر على التأثير فيها وعلى استيعابها والتعامل معها وفق مصالحها ويشاركها في ذلك عدد من الدول الأخرى، والكل يعطي الأولوية في المنطقة لإسرائيل دون غيرها، وهذا بحد ذاته خطر علينا. نعم، هذه هي دولنا، تدمّر الواحدة تلو الأخرى تحت عناوين وشعارات متنوعة. تتفكك وحدتها وربما جغرافياتها، والثابت هو نفطها وخيراتها في يد الآخرين وتحت إشرافهم. لا مكان للمكابرة في السياسة وحركة تطور التاريخ. والأنظمة السياسية مثل الأفراد في النهاية ستموت. يعني ستتغير. هذا هو منطق التاريخ والتطور في الحياة. قد يطول عمرها لفترة معينة لكنها ستشيخ وتموت. قد تتعدد الأسباب والظروف لكن الموت واحد! والظلم والقهر لا يدومان والاستبداد والاستغلال والاستعباد لا يدوم! دائماً ستأتي لحظة تشهد فيها الدول متغيرات منطلقة من ومرتبطة باستشرافات القادة وطموحاتهم وأمزجتهم وممارساتهم وأحلامهم وتقديراتهم... ولذلك، لا بد من التغيير والتطوير والإصلاح في كل مرحلة داخل الأنظمة والمؤسسات لمسح وإزالة العفن والغبار عن أجسام مؤسساتنا السياسية. وهذا التغيير لا يجوز أن يكون مطلباً خارجياً يفرض علينا. بل قناعة داخلية نعيشها ونعمل على تحقيق أهدافها. والقادة المدركون لهذه الحقيقة، والصادقون مع أنفسهم ومع شعوبهم، واللاعبون الماهرون البارعون الذين يجيدون فن التعاطي مع الأحداث والأزمات يعرفون كيف يلتفون على محاولات الاستهداف فيستوعبون ما يواجههم ويقدمون بشجاعة وثقة في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة، ولو كلف ذلك بعض التحديات والتعب ومواجهة أصحاب المصالح والمتخلفين عن مواكبة حركة التطور والمتحجرين في عقولهم، الموجودة في جيوبهم لا في رؤوسهم! ومع ذلك، نحن في لبنان، مدّعون، أننا نعرف كل شيء، ونعلّم كل الناس، ولكننا لا نعلّم أنفسنا، ولا نتعلّم مما جرى عندنا، فنعود دائماً إلى الوقوع في الأخطاء وندفع ثمنها. اليوم في مواجهة المتغيرات في البلاد العربية، ينبغي أن نواكب بارتياح حركة التغيير، لا سيما التغيير السلمي الحضاري في بعض الدول، وحركة التغيير التي ترافقها أحداث دموية، بقلق، وألا نكون جزءاً من اللعبة هنا أو هناك. لنا رأي نقوله بهدوء وصدق انطلاقاً من حرص نجاح حركة التغيير الديمقراطي التي ولو متأخرين أقر بضرورتها كل القادة تقريباً ولكن خطوات البعض كانت متأخرة وقاصرة عن اللحاق بوتيرة سرعة الأحداث. ما جرى في الأيام الأخيرة على مستوى التعاطي مع الأحداث في سوريا لم يكن يبشر بالخير. وكأن البعض منا أراد إقحام نفسه والبعض الآخر أراد إقحام شركائه في العملية من خلال الحديث عن سلاح وتحركات وتدخلات من لبنان إلى سوريا، وثم نفي ذلك من قبل مسؤولين سوريين، أو من خلال الرهانات في التحليلات السياسية والقراءات لأبعاد ما يجري وبناء خطط وقرارات وتوجيهات على أساسها. وسبق ذلك مؤشرات حول مصر وليبيا واليمن وغيرها... وكل ذلك لا يطمئن!