يمكن القول إن المعالم الرئيسية التي ترسم خط الأفق لمدينة "ليلونجوي" في مالاوي- وما أصغره من خط أفق - هي إنتاج صيني. فالأموال الصينية هي التي أنشأت مبنى البرلمان، وهي التي تنشئ في الوقت الراهن فندقاً ومركزاً للمؤتمرات بتكلفة 100 مليون دولار، وهي التي تنوي إنشاء - من خلال شركات عقارية حكومية - استاد كبير لكرة القدم، وهو مشروع من المؤكد أنه سيلقى قبولاً شعبياً ضخماً. ليس هناك من يستطيع ادعاء أن هذه المباني الشامخة ذات الواجهات البراقة، تمثل أولوية أكثر إلحاحاً من مقاومة الملاريا، أو تقديم وجبة غذائية يومية منتظمة للأطفال الفقراء في المدارس الريفية. الصينيون من جانبهم لا يحاولون، مجرد محاولة، الادعاء بأن الأمر ليس على هذا النحو بل ويعترفون لمن يناقشهم بأن تلك المشروعات اللافتة للأنظار لحد كبير، التي ينوون - كما يؤكدون - بناء المزيد منها في مختلف الدول الأفريقية التي يستثمرون فيها مقصود بها، في الأساس تحقيق سمعة طيبة لهم وزيادة نفوذهم لدى حكومات البلدان التي يتعاملون معها. ولكن ما السبب في إقبال الصين على إقامة تلك المباني البراقة والاستثمار في مالاوي على الرغم من أنها دولة فقيرة، تعتمد على الزراعة كنشاط رئيسي، وليس لها منفذ بحري نظراً لكونها محاطة باليابسة من جميع الجهات، ولا يستطيع أحد أن يزعم أنها تمثل جائزة استراتيجية استثمارية بالنسبة لقوة كبرى مثل الصين؟ السبب أن هذا البلد، به عدد من مناجم المعادن النادرة غير المستغلة، ولديها منجم كبير لإنتاج اليورانيوم، وهي ميزة كبيرة قد تشد انتباه العديد من الدول. مع ذلك، يمكن القول إن هناك أسباباً أخرى دفعت الصين للاستثمار في هذا البلد أهمها رغبتها الجارفة في تأسيس سمعتها كقوة ذات نفوذ في مختلف أرجاء القارة حتى في دولها النائية. وهو شيء يمكن أن يطلق عليه "النيو ليبرالية"أو "الميركنتيلية" Mercantilism، وهي مذهب يعظم النزعة التجارية، وينادي بتحقيق أقصى ربح من خلالها، ومن دون اعتبار لأي عامل آخر. فمن خلال هذا المذهب الذي تتخذ منه الصين نبراساً للعمل، تسعى بكين بلا هوادة من أجل تأمين المواد الضرورية لتغذية ماكينة اقتصادها العملاق عن طريق استغلال الموارد الطبيعية الموجودة في دول القارة الأفريقية، مع القيام في الوقت ذاته، بالاستفادة من أسواق تلك الدول، لبيع منتجاتها رخيصة الثمن. وعلى الرغم من أن الصين لم تسع لإقامة قواعد عسكرية في القارة، أو لتشجيع الثورات الأيديولوجية فيها، فإن نموذجها الخاص في النمو، القائم على سيطرة الدولة على عملية الإنتاج، يتم النظر إليه في مختلف أنحاء أفريقيا - وعلى نحو متزايد - بأنه يمثل نموذجاً جيداً للنمو، أجدر بالاتباع من الليبرالية الاقتصادية الغربية. والزعماء الأفارقة ومنهم "جاكوب زوما" رئيس جنوب أفريقيا لا يخفون إعجابهم بالنهج الاقتصادي الصيني، ونموذجها الخاص في النمو. وهذا الإعجاب لا يقتصر على "زوما" فحسب، بل يمكن القول إن الأمر ينطبق على كافة الزعماء الأفارقة المؤمنين بتوسيع نطاق صلاحيات الدولة، وهم كُثر بالمناسبة. ولكن الإشكالية تكمن في أن ما قد يروق للزعماء الأفارقة قد لا يكون بالضرورة في صالح شعوبهم. فعلى سبيل المثال نرى أن المبدأ الناظم للسياسة الخارجية الصينية في القارة، هو"عدم التدخل المتبادل في الشؤون الداخلية" بمعنى عدم تدخل الصين في شؤون تلك الدول، وعدم تدخل تلك الدول من جانبها في الشؤون الصينية. فهذا المبدأ يبدو مناسباً بالنسبة لحكومات الدول الأفريقية، التي عانت كلها تقريباً من الاستعمار لفترات طويلة، وباتت شديدة الحساسية في فترات ما بعد الاستقلال حيال أي شيء تشتم منه رائحة المساس بسيادتها من قريب أو بعيد. الصين ترتبط بعلاقات تجارية ومصالح اقتصادية كبيرة مع دولتين، تعدان من أهم شركائها في أفريقيا، وهما السودان وزيمبابوي. وفي الوقت الذي يحقق فيه التعاون الاقتصادي مصالح البلدين، فإن المساعدات الصينية والمشروعات التي تقوم بها فيهما، والدعم الدبلوماسي الذي يقدم لهما مقابل منح الفرص الاقتصادية للصين يساعد النظامين على إحكام سيطرتهما على مجريات الأمور، وعلى مقاومة الضغوط الخارجية. فمن ناحية أخرى نجد مالاوي دولة ذات تعددية ديمقراطية تواجه نوعاً من التراجع الديمقراطي بسبب التعديلات الأخيرة، التي أدخلتها الحكومة هناك على القوانين المنظمة للحياة السياسية والاجتماعية. فهذه القوانين على سبيل المثال وسعت من نطاق التمييز الذي يمارس ضمن بعض فئات المجتمع التي تتسم بميول شاذة، وهو الشيء الذي لا يقبل به الغرب والمانحون الغربيون، وكان من المتوقع أن يؤدي أي إحجام الغربيين عن تقديم المعونات لحكومة هذا البلد بسبب القوانين إلى أضعاف هذه الحكومة، إلا أن ذلك لم يحدث، وهو ما يرجع إلى العلاقات الوطيدة، التي أقامتها الحكومة مع الصين والعلاقات الاقتصادية المتنامية بينهما. النفوذ الصيني في أفريقيا قد حقق لبكين منافع كبيرة على الأقل، خاصة إذا أخذنا في الحسبان سعيها للسيطرة على المصادر العالمية، وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية جيدة للحكومات الأفريقية، التي تفضل الحصول على المساعدات الاقتصادية دون شروط مزعجة يفرضها عليهم المانحون الدوليون أو الدول الغربية، فإنه إذا كان الهدف الذي تسعى إليه معظم الحكومات الأفريقية هو الإصلاح الاقتصادي والحكم الرشيد، فإن النموذج الصيني ربما ليس بالنموذج المناسب لأفريقيا على المدى الطويل. مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"