لا شك أن التضامنَ مع الشعوب فعل ممدوح، مع البحرين أو سواها، لكن في حال العراق المبتلى، في ماضيه القريب وحاضره المعاش، يُحسب للتضامن ألف حساب، ذلك ليس للتضامن نفسه، فقلنا إنه ممدوح لذاته، بل لدوافعه، حزبية أم طائفية أم شخصية، وهذا ما يحصره في واحدة مِن تلك الزوايا، وليست واحدة منها تحمل هم الشعب البحريني. لا شك أيضاً أن لشعب البحرين، وكل البلدان التي شهدت الاحتجاجات، حقوقاً، وهي بلاد مختلطة المذاهب، شأنها شأن العراق، وفي مثلهما يوجب الحذر مِن شرارة الطائفية، التي لا تبقي ولا تذر. لأن في المواجهة عبرها تسقط الحقوق الواجبات: محاربة الفقر، البطالة وطلب التجديد في مناحي الحياة، فبالمواجهة الطائفية يحضر الماضي وتُنسى ضروراته. تُصب حوادث الماضي في الأذهان صب الرصاص في القالب، ولا يمل المنتفعون من استعادة ما حصل في السقيفة (11 هـ) وما بعدها، فبإذكائه تحفظ مصالح الرؤساء. لم يلفت نظري بيان حزب الدعوة الإسلامية في شأن البحرين، والذي أذاعه النَّاطق الرَّسمي في 16 مارس 2011، فيؤخذ أسوة ببيانات تضامنه مع الشعبين المصري والليبي، مع أن سكوته عما حصل للمتظاهرين ضد حكومة الجار الجنب يثير التساؤل، لكن ما يلفت النظر هو بيانه البرلماني المطالب بتعليق جلسة البرلمان ليوم 17 مارس للتظاهر من أجل البحرين2011 (موقع حزب الدعوة). جماعة أخرى اقترحت على البرلمان خطوات للانحياز إلى المتظاهرين البحارنة، وهي: تخصيص مبلغ خمسة ملايين دولار مِن الميزانية العراقية لدعم الشعب البحريني (وهب الأمير ما لا يملك)، وأن يتبنى العراق دعوة مجلس الأمن لاتخاذ قرار "على غرار القرار رقم 688 الصادر في نيسان 1991 والذي طلبت فيه الأمم المتحدة مِن نظام صدام التوقف عن قمع الشعب العراقي"، وأن يطلب العراق من الجامعة العربية بوصفه رئيساً للقمة العربية (غير الملتئمة) لاجتماع طارئ، وأخيراً، دعوة "متطوعي اللجنة الشَّعبية العراقية لإسناد الشَّعب البحريني" (بيان المؤتمر الوطني). إذا ما أُخذ بهذه المقترحات فعلى العِراق الاستعداد لحرب مع الجوار، بينما الدول التي دخلت قواتها البحرين ضمن اتفاقية التعاون الخليجي، تستعد لحضور مؤتمر القمة ببغداد، وأخذ وزراؤها يتعاقبون على زيارة العاصمة العِراقية. هذا مِن جهة، ومن جهة أخرى أن استنكار دخول قوات "أجنبية"، مِن قبل تلك الجماعة، يحق عليها القول "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ" (يس 87)، فقد فعلت المستحيل لاستدراج قوات أجنبية لاحتلال العِراق، لكن ماذا لو قورنت منافع الشَّعب العِراقي بمنافع تلك الجماعة وغيرها؟ يسقط مِن الحساب بأنها فعلة مِن أجل العراقيين، والشَّواهد لا تُعد ولا تُحصى! في حال المتاجرة بدماء الشُّعوب مِن قِبل شخصيات ساهمت في ابتلاء الشَّعب اللبناني، بتوريد سلاح للميليشيات المتواجهة لخمس عشرة سنةً بلبنان وتسخير أموال البنوك المؤتمنين عليها، تصح الكناية العِراقية "تالي الليل تسمع حس العياط (الصِّراخ)"! وقصة ذلك أن صاحب الشُّرطة العثماني أحمد أغا كان يدور شخصياً لحفظ أمن البغداديين، فإذا بعصابة لصوص دخلوا إحدى الدُّور، وأشعلوا النَّار لإيهام صاحب الشَّرطة أنهم يعدون الماء لغسل وتكفين فتى مات تلك الليلة، واستغرب صاحب الشرطة مِن عدم وجود صراخ (عياط عند العراقيين) على الميت، فقال له اللصوص: "تالي(آخر) الليل تسمع حِس العياط"! "ولما عاد في آخر الليل سمع عياط أهل الدَّار وهم يستغيثون مِن اللصوص" (الشَّالجي، الكنايات البغدادية)، قد لا نبالغ إذا وصفنا حال العراق بحال أصحاب تلك الدار، مع غياب صاحب الشُّرطة الأمين. لسنا ضد التضامن مع الشعب البحريني الطيب، صاحب التَّاريخ والحضارة وما بينه وبين العراق مِن وشائج ماضية وحاضرة، لكننا نحذر مِن صراخ "تالي الليل"، أخشى أن يكون ثمن التَّضامن مصلحة شخصية حزبية ضيقة، فالورقة الطَّائفية مازالت رابحة، والبحرين موقع خصب! أما انحياز حزب الدعوة الإسلامية، وبيده رئاسة الوزراء وعليه أن يكون حذراً كل الحذر ويحسب مصلحة الوطن قبل مصلحة الحزب، فربما ُفسر بالحنين إلى وجود بقية فرع مِن الحزب بالبحرين، حيث تأسس الفرع البحريني عام 1968 (الطَّائي، التَّيار الإسلامي في الخليج العربي). أقول: مثلما يطلب للبحرين السَّلامة، يُطلب الرِّفق بالعراق الذي مازال كسيحاً، فهو لا يتحمل استعداء قرية فكيف وهذا الانحياز يدفعه إلى استعداء دول تحيطه مِن كل الجهات! افصلوا بين شأنكم الحزبي والشَّخصي وشأن الوطن. لا تتهادوا بالعراق وكأنه بستان لكم! فبياناتكم قد أساءت إلى مطالب البحرينيين أنفسهم، عندما حصرتها في الطَّائفية! وسيوهم هذا التَّضامن شيعة العِراق قبل سنته أمراً، إنه كيف جوبهت مظاهراتهم بالقوة، وكيف فُسرت مطاليبهم! وكم لاغ الفاسدون بأموالهم! وكم انتشروا تحت مواقع النُّجوم، وهم تحت أمرتكم! هذا وتبقى البحرين عزيزة على العِراق وأهله، بلد صغير بمساحته، كبير بتاريخه الحضاري، وصفه البلدانيون بذي البساتين، والماء "قريب المؤُنة يُحفر عليه بالأيدي فيوجد، وبها حدائق النَّخل والرُّمان" (رحلة ابن بطوطة). وقال القزويني (ت 682 هـ) "بها مغاص الدُّر، ودره أحسن الأنواع". نعم، ما بين العراق والبحرين أكثر مِن آصرة، قديماً الحضارة السُّومرية المتمثلة بآثار دلمون، وامتداد القرامطة إليها مِن سواد الكوفة، وأخذ علماؤها مِن النَّجف، وزوارها غير المنقطعين إلى عتبات العِراق، لذا لا تجوز المتاجرة بمصيبتها، بتضامن غير بريء سيزيد الوضع العِراقي تعقيداً، ويُضيع مطالب البحرينيين أنفسهم! فأميركا نجدها محبذة لدخول القوات الخليجية إلى البحرين، فلا يعني الانحياز سوى مجازفة إعلان المواجهة مع صاحبة الفضل بأسر وإعدام صدام حسين! وبهذا سيُسمع حس "العياط" تالي الليل! أخيراً، سلمَ الله البحرين مِن مَقاتل ونهب ثروات تعرض له العِراق تحت لافتات الطَّائفية، وكأني بأمرئ القيس (قُتل نحو 565 ميلادية) وهو يقول: "فدع عنك نهباً صَيحَ في حجراته.. ولكن حديثاً ما حديث الرَّواحل" (الميداني، مجمع الأمثال)، فسـتُسألون عن العِراق وجنته المضاعة، أما البحرين فحديثها قد يكون حديث الرَّواحل. قصة ذلك أن طلب أحدهم مِن امرئ القيس أن يعطيه رواحله ليطلب عليها المال الذي نُهب مِن الشَّاعر، فذهب مال الشَّاعر والرَّواحل. ولا ندري إلى أين سيذهب هذا الانحياز بالعِراق والبحرين معاً.