تقول إدارة أوباما إن أهداف حملة قصفها الجوي للكتائب الموالية للقذافي واضحة جداً، غير أنها واجهت صعوبة كبيرة في محاولة فهمها وتفسيرها. فهذه ليست حرباً، على حد تصريح "جي كارني"، الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، الأسبوع الماضي. إنها عمل عسكري محدود جداً من ناحية طبيعته ومداه الزمني. ومن جانبه قال مستشار الأمن القومي بن رودز: ما نحاوله هو تنفيذ قرار الأمم المتحدة المقيد بأهداف في غاية الوضوح، تتلخص في حماية المدنيين الليبيين، وتفادي حدوث كارثة إنسانية، وإنشاء منطقة حظر جوي. ومن البديهي أن تتطلب هذه الأهداف عملاً عسكرياً، ولكن دون أن يعني ذلك التحول إلى حرب مفتوحة، أو إلى غزو عسكري لليبيا". فهل في هذا التفسير ما يكفي يا ترى لنوايا الإدارة إزاء ليبيا؟ في الحقيقة إن التفسير الذي قدمه "رودز" يبدو أكثر وضوحاً مما يكفي لأنه يبين أن ينضب معين الوضوح الذي تبغيه الإدارة. وهنا تكمن المعضلة: ذلك أن استراتيجية الإدارة تبدو واضحة جداً، ولكن ذلك على المدى القريب فحسب، ويقتصر وضوحها على الأيام وليست الأسابيع، التي سمحت فيها الإدارة بتوجيه ضربات جوية بقيادة أميركا لكتائب القذافي، ومنعها من استعادة السيطرة على المدن التي سيطر عليها المتمردون. ولكن يبقى هذا مجرد هدف تكتيكي مباشر قصير المدى. ثم ماذا بعد؟ هذا هو الجانب غير الواضح من الاستراتيجية. هذا وقد كان بعض مسؤولي الإدارة أكثر صراحة في الاعتراف بالشكوك المحيطة بالمصير الذي تنتهي إليه هذه العملية العسكرية. ذلك ما أكده الأدميرال "مايكل جي. مولين"، رئيس الأركان المشتركة في تصريح له بهذا المعنى الأسبوع الماضي. فهناك هدف بعيد المدى للرئيس أوباما في ليبيا من دون شك. فهو يريد رؤية انهيار نظام القذافي واستبداله بنظام حكم ديمقراطي. لكنه لم يستقر على استراتيجية توصله إلى ذلك الهدف بعد. وقد أمل بعض مسؤولي الإدارة في أن تساعد الضربات الجوية على تسريع انهيار نظام القذافي، وخاصةً تسريع انقلاب بعض ضباط جيشه عليه. ويأمل هؤلاء المسؤولون في أن يؤدي هذا المزيج من تطبيق منطقة الحظر الجوي والعقوبات الاقتصادية والتمرد المدني على العقيد في شرق ليبيا إلى تقويض نظامه بمرور الوقت. وفي مستوى آخر من الوضوح يقول بعض مستشاري الإدارة إنه يجب أن يسقط نظام القذافي من دون تدخل عسكري من قبل الولايات المتحدة. وفي هذا فإن الجانب الأكثر وضوحاً من قبل هؤلاء بشأن ما ليس ينوونه هناك هو: عدم شن غزو عسكري على ليبيا. ولعل جزءاً من الغموض الذي يكتنف رسالة إدارة أوباما هذه بشأن طبيعة مهمتها العسكرية في ليبيا، يكمن في الخداع الدبلوماسي الذي انطوى عليه قرار مجلس الأمن الذي سمح بتوجيه الضربات الجوية هناك. فقرار المجلس وافق على استخدام القوة العسكرية لحماية المدنيين وليس لمساعدة المتمردين على الإطاحة بنظام القذافي. غير أن الولايات المتحدة وحلفاءها فسروا قرار المجلس بما يكفي من السعة لتخويلهم بتوجيه ضربات إلى مقر القيادة المركزية لقوات العقيد تحت مظلة "حماية المدنيين". ومن جانبهما امتنعت كل من روسيا –العضو الدائم في مجلس الأمن على خطة القصف الجوي وفرض منطقة الحظر الجوي على ليبيا. وفي ذلك ما يفسر المعاناة الكبيرة التي واجهها المتحدثون باسم البيت الأبيض في شرح نوايا الإدارة وأهدافها إزاء ليبيا، خاصة في تفسير الجانب القانوني من التدخل العسكري الأميركي هناك. وكما قال الكاتب الإنجليزي العظيم جورج أورويل في مقاله "السياسة واللغة الإنجليزية" الذي نشره في عام 1946: "فمتى ما كانت ثمة فجوة بين نوايا المرء الحقيقية والمعلنة، كلما ازداد ميله لاستخدام العبارات الطويلة المعقدة والملتوية". غير أن المعضلة تذهب إلى ما هو أبعد كثيراً من العلاقات العامة أو حتى الدبلوماسية. فبانضمام قواته إلى كل من القوات البريطانية والفرنسية في توجيه ضربات جوية على كتائب القذافي، يكون أوباما قد أدخل بلاده عملياً في حرب محدودة النطاق كما يفترض. بيد أن كثيراً ما تحول هذا النوع من الحروب المحدودة إلى صداع نصفي مزمن، لأنها تستغرق وقتاً أطول مما هو متوقع، ودائماً ما تكون لها تداعيات وعواقب غير منظورة. وفيما لو عجزت الحروب المحدودة هذه عن تحقيق أهدافها التي شنت من أجلها، فإن في ذلك ما يغري صناع السياسات والقرارات على تصعيد العمل العسكري ليمضي إلى حدود تتجاوز أهدافه ونواياه الأصلية بكثير. وربما كان أكبر خطر تواجهه عملية أوباما العسكرية الجارية في ليبيا الآن، تحقيق النجاح المطلوب في توفير الحماية اللازمة للمدنيين. ففيما لو نجحت عمليات القصف الجوي في إرغام كتائب العقيد على الانسحاب ووقف هجماتها العسكرية على المدنيين، لكنها أخفقت في ذات الوقت في الإطاحة بنظامه، فإن ذلك يعني دخول الولايات المتحدة وحلفائها طرفاً في قلب حرب أهلية ليبية. ولنذكر بهذه المناسبة أن آخر منطقة حظر جوي كنا قد أقمناها في منطقة الشرق الأوسط، كانت قد بدأت بالطريقة ذاتها. ذلك أنها حققت نجاحاً في إرغام قوات صدام على الانسحاب الفوري من الكويت، بموجب قرار دولي صادر عن الأمم المتحدة، لم ينص على الإطاحة بنظام صدام. وقد استمرت منطقة الحظر الجوي هذه 12 عاماً، لتنتهي بتدخل عسكري بري كما نعلم في صيف عام 2003. وعلى رغم حذر أوباما وتردده إزاء استراتيجية التدخل العسكري في شؤون الدول الأجنبية، فإن هناك نمطاً سارت عليه سياسات واشنطن الخارجية على أية حال. والآن وفيما لو استمر تشبث القذافي بالسلطة، فهل يصر أوباما على رحيله عن السلطة؟ إن مثل هذا السؤال الرئيسي وغيره، ما يتعين على أوباما أن يكون أكثر وضوحاً في التصدي له. وهذا ما لم نلمسه فيه حتى الآن. دويل ماكمانوس كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"