يخطئ البعض عندما يظن أن "التحول الديمقراطي" يصبح ممكناً بمجرد حلول انتخابات حرة وشفافة يصوت من خلالها الشعب على الدستور الجديد والحكام الجدد. إن استقرار قيم المحاسبة والمساءلة وترسخ مفاهيم الفردانية والمواطنة والتعددية وحقوق الإنسان والمساواة في سلوك الأفراد، يعد عاملاً محدداً لتطور بذرة الديمقراطية لأنها ستغرس في بيئة سليمة، وستسقى بماء التعقل، وستتغذى بمؤسسات شرعية ودستورية؛ وبعدم وجود استقرار تلك المفاهيم في ضمائر الناس وتصرفاتهم، سرعان ما يهن عظم الديمقراطية الوليدة وتقوى الصراعات ويكبر الشد والجذب بين فئات المجتمع الواحد بما قد يصل إلى حروب مسلحة داخلية، تأتي على الأخضر واليابس. كنت دائما ضد نظرية "لبست" (Lipset) الذي أشار إلى وجود علاقة مباشرة بين التطور الاقتصادي والديمقراطية؛ فحسب تعبيره كلما كان حال الأمة أفضل كانت فرص تعزيز الديمقراطية أعظم؛ وسهلت أسطورة "التنمية أولاً" من تثبيت ركائز السلطوية والاستبداد كما ساهمت لعقود عديدة في مساندة الغرب للحكومات الاستبدادية؛ والتاريخ يسجل لنا دولاً محدودة فقط استطاعت أن تتحقق فيها هذه النظرية كإسبانيا واليونان والبرتغال، لكن المتتبع الحصيف لسلم ترقي تلك الدول إلى مصاف الأمم الديمقراطية سيجد أن تحولها الديمقراطي يرجع إلى أسباب متعددة وأوسع من تأثير نخبتها الاقتصادية وبالأخص الطبقة الوسطى. كما كنت دائماً ضد العلاقة بين "القيم الثقافية" وغياب الديمقراطية وبخاصة في عالمنا العربي؛ وكان هذا الاتجاه سائداً في العديد من الأدبيات الغربية والعربية على السواء وبخاصة الإنتربولوجية منها التي تركز على خصائص وصفات الشعوب التي فيها حسب زعمهم معوقات أصيلة تحول دون الحداثة والديمقراطية؛ وهذه النظريات هي سكونية قارة غير قابلة للتبدل والتحول، وهو تكتيك علمي انحرافي خاطئ يوجه الأفكار بعيداً عن مجابهة النظام السياسي كبنية مستبدة تحتكر مواقع النفوذ، وتوجه العقول والأقلام إلى معالجة أفكار الناس وسلوكهم، ففي مثل هذا النهج حسب تعبير إليا حريق، "خطر قيام طغيان من نوع جديد يشبه في حالته القصوى غسيل الأدمغة... وإسقاط السياسة من المجتمع هو طريق أكيد للاستبداد. الاستبداد قضية سياسية بالدرجة الأولى ولا تكون معالجتها سوى بواسطة العمل السياسي والوسائل السياسية، وما الكلام على بدء عملية التحول بمعالجة نواقص المجتمع سوى لعبة في يد السلطان". نرجو أن لا يحمل قولنا هذا على سبيل التناقض الفكري، إذ يجب التمييز بين تلك النظريات السكونية التي يسقطها البعض على المجتمعات العربية من ثقافة أبوية مستحدثة وذهنية جمودية كعوامل معيقة ومانعة للحداثة والديمقراطية، وتدريب المواطن على التشبع بثقافة المواطنة والتعددية والمساواة والمحاسبة والمساءلة إلى غير ذلك بحيث يتمكن اللاعبون والملتزمون بالديمقراطية من الثبات، والشعب من تجذير الاستقرار الضروري لمنع كل وسائل الرجوع إلى الوراء والتشرذم. الديمقراطيات الفقيرة تتعدى الأنظمة السلطوية في أدائها الاقتصادي والاجتماعي، لأن المؤسسات تسمح بالتناوب السياسي وتشجع على المبادرة والانفتاح، وتتحسن البرامج التنموية والاقتصادية، وتندثر المحسوبية الضيقة التي تعمي بصائر أولى الأمر عن السعي في رفاهية المجتمع، ويتصلب عود مبدأ "المراجعة والموازنة" (Checs and Balances) أي مراجعة مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية لبعضها البعض في سبيل الوصول إلى نقطة الموازنة لخدمة المصلحة العامة للوطن. وهذا يخالف توجه الأنظمة الاستبدادية، لأن الاحتكار السياسي فيهاً غالبا ما يولد الاحتكار الاقتصادي، وهذا ما يخلق الزبونية والمحسوبية ويضعف المنافسة والابتكار ويؤدي بالتنمية والتطور إلى وادي الهلاك. العديد من الدول العربية دخلت أو أوشكت على الدخول إلى حقبة جديدة من تاريخها؛ وهذه الحقبة معروفة في أدبيات العلوم السياسية المقارنة بـ"التحول الديمقراطي"، وهذا التحول سلاح ذو حدين: إما أن تمر المرحلة بسلام وتصل إلى بر الأمان فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وإما أن تكون المرحلة صعبة لا يكون الخروج منها إلا وفق مبدأ "الإنهاك المتبادل"، تتحمل فيها الشعوب كل أنواع المصائب، ونرى ذلك جلياً في العراق، حيث أن غياب تفعيل القواسم والمشتركات الوطنية الجامعة التي تأتي بها قواعد اللعبة الديمقراطية ولو في حدها الأدنى، يؤدي إلى حرب أهلية لا يعرف مآلها أحد، قد تخمد حيناً وقد تشتعل حيناً آخر. إن عين الصواب أن تتوزع السلطة على الجميع، حاكماً ومحكوماً؛ والذي سيقيد توسع السلطة ليس العقلية العربية، كما اجتر ذلك العديد من المختصين في هذا الباب ولعقود طويلة، بل تركيبة الحلبة الشعبية وبنية المؤسسة السياسية واللاعبين فيها. فالبنية السياسية في النظام الديمقراطي تعددية تتنافس فيها مكوناتها وتقيد نفوذ بعضها بعضاً، والبنية السياسية في النظام السلطوي تكون مركزية لا تسمح بالمنافسة الحقيقية، أما البنية السياسية في النظام الانتقالي الجديد فقد تبقى هشة إذا لم يتجاوز الشعب كل الحواجز الطائفية والعرقية والمصلحية الآنية، وإذا لم يدخل الحاكم والمحكوم في دائرة محكمة من الالتزام القانوني بالقواعد التي اتفقا عليها للسماح لثقافة ديمقراطية حقيقية بالولادة والنشوء على أنقاض الماضي. الأنظمة الجديدة لا يمكنها أن تملك عصا سحرية تسمح بمضاعفة رواتب العمال والموظفين في المدى القريب، بل وحتى في المدى المتوسط والبعيد، ولا يمكنها أن تجد الشغل للجميع، ولا يمكنها أن تضاعف من القدرة الشرائية للمواطنين فجأة... كل هذا وأمور أخرى سيتطلب أشهراً بل سنوات معدودات. والعامل المساعد أو الضمانة الوحيدة لنجاح هذه الفترة هو تجاوب وسلوك المواطن مع المنتخبين الجدد الذين ابتغاهم في دائرة القرار، أو ما يمكن أن نسميه بالاعتدال كثمن لمستقبل أفضل، ولا غرور أن قاعدة الضمانات المتبادلة هذه ستبقى أفضل بآلاف المرات من الحالة اللاديمقراطية، سواء أكانت سلطوية أو فوضى سياسية مطلقة.