كانت الحكومات قد أتمَّت، أو هكذا ظنت، إجراءات التحكم بعملية الإعلام، سياسياً وأمنياً، تقنياً وإدارياً، في عمليات لا تخلو من التعقيد، لكنها تعتمد خصوصاً على الشدَّة والترهيب. كما أنها أتمَّت -أو هكذا ظنت- إقفال منافذ المعلومات وتكميم "المصادر" والأفواه وإسكات الأصوات وإغماض العيون وتكبيل الأيادي، في عمليات خالفت تماماً القوانين المعلنة، لكنها اعتمدت خصوصاً على إقامتها الطويلة في الحكم لتصنع واقعاً مستداماً يصعب كسره أو تغييره. لم تغفل الحكومات شيئاً سوى أنها لا تستطيع في النهاية أن تبدّل طبيعة الناس والأشياء، ولا تستطيع أن تدخل إلى جينات شعوبها لتعبث بما فيها وتعيد تخليقها. بل أغفلت أن المسألة ليست إعلاماً فحسب، دائماً هي تحديداً في ارتباط إرادة الحياة بالوعي، وارتباط الوعي بالحرية، وطبعاً ارتباط الحرية بالكرامة. أي أن الإعلام هو إنسان يدأب على محاولة التعبير عن طموحاته آملاً بمجيء يوم تحقيقها. ثم إن الحكومات أغفلت أن المسألة ليست إنساناً وإعلاماً فحسب، وإنما هي في تعمُّد الحكومات ذاتها إخفاء الحقائق وصرفها أو فرض حقائق ووقائع مختلفة تثبيتاً للسلطة، ومنطقها وكأنها غاية في حد ذاتها يحددها صاحبها ويسهر على تأبيدها من دون أن يكون هدفها إنشاء "دولة" بما تعنيه من قوننة وتنظيم ورعاية. ما تشهده اللحظة العربية الراهنة هو انتفاضات أفراد وجماعات، وقد مرّت الشهور الثلاثة كأنها عقود أو قرون يصعب التقاط كل مغازيها. ثار جدل حول المستهجن فيها، أهو انكسار خوف الشعوب وصمتها، أم انكسار هيبة الأنظمة الطاغية. وجدل آخر حول الأسباب والدوافع، أهي العولمة، الحداثة، الأزمة المالية التي كتمت الحكومات انعكاسها على الاقتصادات المحلية، أم "حروب الإرهاب" واستمرار ضغط الإرهاب الإسرائيلي على الوجدان العربي..؟ إنها كل ذلك في آن، لكن النظر بتفحص إلى عمق الأحداث، من تونس إلى مصر، إلى ليبيا واليمن وسوريا، يظهر قواسم مشتركة جرى التعبير عنها بكلمات لعل أهمها وأبسطها: الغضب. ولماذا الغضب؟ لأنه حين يصدر عن شعب فإنه ينطوي على مراجعة للتاريخ الطويل لهذه الأنظمة، والذي بات يختصر في عناوين أخرى: الحرية، إنهاء الفساد، العدالة المدنية. وفي المقابل ظهرت قواسم مشتركة حكومية: التحذير من التطرف والإرهاب، الحرص على الاستقرار، فزاعة الإسلاميين، لكن أيضاً: إطلاق الرصاص على المتظاهرين العزّل، إفلات البلطجية، افتعال الصراعات الأهلية، وصولاً -كما في ليبيا- إلى حرب فعلية على الشعب بواسطة الجيش والمرتزقة. تحت وطأة الحدث تنبّهت الحكومات إلى أن أبرز مصاعبها يأتي من الإعلام، أو هكذا اعتقدت، ثم وجدت أن الأجدى من طرد الصحافيين والكاميرات أو إقفال مكاتب الفضائيات، ثم فوجئت بأن كل التقنيات التي جهزتها للتشويش لم تحقق لها ما ابتغته. وحين عطلت شبكات الهاتف والإنترنت وجدت أنها تتضرر بمقدار ما تضرّ بخصومها بل أكثر. كان الإعلام قد اختزل إلى إنسان يحمل هاتفاً، أصبح إعلام شهود عيان لا يتدخلون في الخبر ولا يتكلمون ولا يحللون بل ينقلون صورة حية أكثر دقة وبلاغة من أي كلام. وإذ يخرج صاحب السلطة ليذكّر "الفئران والجرذان" بأنه فعل لهم الكثير خلال مسيرته، والأهم أنه مستعد لأن يفعل منذ الآن أكثر، بل أن يفعل عكس كل ما أقدم عليه طوال العقود الماضية، فإن الإنسان الإعلامي الجديد، الشاهد العيان، يرد عليه مباشرة وبصورة من الشارع: ارحل! ليست الحكومات وحدها، بل حتى وكالات الأنباء الكبرى، متجاوزة بفعل هؤلاء الشهود المندفعين والمصممين، بل المدركين أن مصير انتفاضتهم بات رهناً بتدفق لقطاتهم وأخبارهم عبر "اليوتيوب" و"تويتر" و"فيس بوك" التي تحولت إلى غرف أخبار يضطر الإعلاميون المحترفون إلى معاينتها ليعرفوا هم أيضاً ما الذي يجري خصوصاً في الأرياف كمصدر ومسرح للحدث قبل أن تدرك العواصم.