في كتابه المعنون:"حول التل الوعر: فلسفة شخصية وسياسية" الصادر عام 1993، كتب "جورج كينان" الذي ينسب إليه فضل صياغة "سياسة الاحتواء" الأميركية يقول إن الحكومة الذاتية ممكنة في حالة واحدة فقط، وهي "عندما يفهم شعب الأمة المعنية ما الذي يعنيه ذلك، وأن تكون لديه رغبة في تلك الحكومة، وعلى استعداد للتضحية من أجلها". فإذا افتقدت هذه الحكومة الصفات المذكورة، أو إذا تحولت إلى دولة غير مستقرة، أو إلى أمة مثيرة للمتاعب، فإن الدول الغربية المستقرة لن تصبح - كما كتب - "حراساً لها"، وإنما سيكون من حقها - حق الدول الغربية - في مثل هذه الحالة "أن تطلب من هذه الدولة سواء كانت محكومة، أو مُساء حكمها، حسبما تمليه العادة أوالتقاليد أن تراعي عصبها الحاكم، في علاقتها الثنائية مع الولايات المتحدة، ومع بقية الأسرة الدولية، المعايير الدنيا للتعاملات الدبلوماسية"... وهذا تحديداً ما كان القذافي يرفضه دوماً. "عقيدة كينان" هذه نادراً ما مورست في واشنطن، لأن عديداً من الدول التي لم يكن ينطبق عليها الوصف السابق، كانت من الدول التي تمتلك النفط، وغيره من الموارد الطبيعية ذات الأهمية الاستراتيجية للغرب، علاوة على ذلك، فإن دول الغرب وعلى رأسها أميركا خاضت في نطاق الحرب الباردة معركة من أجل استقطاب ولاءات مثل تلك الدول كجزء من "الصراع الدائر حول السيطرة على العالم". بعد انتهاء الحرب الباردة، أعادت الولايات المتحدة كتابة عقيدتها التي انتقلت من التركيز على التهديد الشيوعي، إلى التركيز على نشر الديمقراطية باعتبارها الوسيلة الوحيدة لإنهاء الراديكالية العالمية والإرهاب، وغيرها من مظاهر التطرف والجنوح الفكري. والأيديولوجية الجديدة يتشارك فيها بحماس "المحافظون الجدد"، والدوليون الليبراليون، لأنها جعلت من الولايات المتحدة قائدة فعلية، أو محتملة للعالم، وبررت التدخل في شؤون كل دولة من دول العالم تقريباً. هكذا بدا الأمر... وهكذا استمر إلى أن حدث ما حدث في الفترة الأخيرة. ومرة أخرى وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة للتعامل مع ثورات وانتفاضات قامت ضد أنظمة ارتبطت بها في السابق بمصالح واتفاقات لفترة طويلة، وهو ما ينقلنا إلى السؤال الشائك: ما الذي يتعين على الولايات المتحدة أن تفعله بشأن ليبيا؟ بداية يتعين القول إن أوباما كان حصيفاً، عندما حرص على أن تظل الولايات المتحدة في خلفية الصورة بالنسبة للأزمة في ليبيا، تاركاً زمام القيادة لفرنسا ساركوزي، وبريطانيا ديفيد كاميرون ومعهما الاتحاد الأوروبي. فبعد التهديدات المتعطشة للدماء التي أطلقها القذافي، وبعد تقدم مدرعاته ومدفعياته تجاه بنغازي، لم يكن الغرب على استعداد للوقوف متفرجاً ورؤية نسخة أخرى من مذابح رواندا. ولكن السؤال ما الذي سيفعله الغرب في ليبيا الآن؟ الحقيقة أن دول الغرب ومعها أميركا أيضاً لم تحصل على تفويض من مجلس الأمن بإطاحة القذافي، أو القبض عليه، أو السعي لإدانته وتقديمه للمحاكم الدولية.. كما أنهم لم يحصلوا على تفويض بقلب الحكومة الحالية في ليبيا، وتنصيب حكومة أخرى بديلة. لقد كتبت من قبل أقول إنه ينبغي علينا ترك أمر اليقظة العربية للعرب أنفسهم كي يستكملوها، ويتحملوا مسؤولياتها وعواقبها. ففي كل مكان تقريباً، توجد الآن هبات وانتفاضات، وشعوب على استعداد للتضحية من أجل تحقيق أهدافها، وتأمين مستقبلها. والقذافي هو الزعيم الوحيد تقريباً الذي لجأ حتى الآن إلى استخدام جيشه كله في المعركة ضد خصومه. ومن الأشياء التي ينبغي تذكرها بالنسبة لتلك الهبات والانتفاضات أن الكثير منها، إن لم يكن معظمها له جذور أعمق بكثير من مجرد سيناريو الحاكم الطاغية الذي يقمع رعاياه بما يملكه من أدوات قوة باطشة، وهو السيناريو الذي تناقشه المنتديات في الغرب في الوقت الراهن. فبالإضافة إلى ذلك كانت هناك الانتفاضة المندلعة في اليمن أفقر دولة ضمن الدول التي شهدت انتفاضة شعبية في الفترة الأخيرة، وكان قبل تلك الانتفاضة يشهد أنواعاً من الصراعات بين الشمال والجنوب، كما يشهد تواجداً ونشاطاً لتنظيم "القاعدة". وإذا عدنا إلى ليبيا، فسوف نجد أن الصراع الدائر فيه ذو أبعاد مناطقية وقبلية في آن معاً. فقبل الاستقلال كانت ليبيا مقسمة لثلاثة أقاليم هي برقة في الشرق وطرابلس في الغرب وفزان في الجنوب الغربي. ومنطقة شرق ليبيا التي حققت فيها الانتفاضة نجاحاً، كانت محكومة في الماضي من قبل الأسرة السنوسية المنسوبة لمحمد إدريس السنوسي التي كانت مرتبطة كما يشير الاسم - إلى حركة السنوسية الإسلامية الصوفية التي أطاح بها القذافي عام 1969. وعلى الرغم من الانتفاض ضد القذافي في الشرق، وقيام المتظاهرين برفع علم ليبيا القديم تحت حكم السنوسية، فإن العقيد الليبي لا يزال يتمتع بالولاء والتأييد في المنطقة الغربية الشمالية والجنوبية. ومن الممكن جدا أن تسفر الأحداث الدائرة حالياً في ليبيا عن انقسامها، وعودتها لما كانت عليه قبل الاستقلال، وذلك لأسباب ليس لها سوى علاقة محدودة للغاية بسياسات وإيديولوجيات القرن الحادي والعشرين. وهو ما يمكن أن يقدم لنا في التحليل الأخيرة ما يعرف بـ"حل طبيعي لمشكلة وطنية".. ولكن المعضلة هنا تكمن في حقيقة أن المصطلحات المستخدمة ليست هي ذاتها المصطلحات التي يفكر فيها الساسة المعاصرون ويتناولونها في نقاشاتهم. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"