إغراء الجوعى بالخبز الساخن لم يعد حلاً سريع المفعول، فالجائع يشكو أيضاً من امتهان لكرامته ويشعر أن هناك من يعد أنفاسه وأن حصاراً مجحفاً يحيط به. فقد أضحكنا دريد لحام والماغوط في مسرحياتهما على الاتهامات الجاهزة التي يرمي بها النظام ضد كل من تسول له نفسه ويغني خارج السرب. اليوم في زحام المخاض الثوري الذي يعيشه الوطن العربي الكبير، فإن الأسئلة المتزاحمة عن سبب هذا الدفق الجميل الذي يترأى كأنه القدر المحتوم، تأتي لتصب في خانة لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن؟ الإجابات بالضرورة لن تخرج عن نطاق الاجتياح الجارف للكرامة، فبعض الشعوب العربية رزحت مع سبق إصرار الأنظمة وترصدها، تحت وطأة امتهان ممعن لكرامتها وعانت طويلاً من كتم للصوت لدرجة الاختناق الذي أسهم في ولادة كل هذا الصراخ. وعلى الرغم من عجرفة بعض الأنظمة في تعاملها مع شعوبها، لكن الواقع يفرض نفسه وتقول الشعوب كلمتها. والمؤسف أن الإصرار على تجاهل مطالب الشعوب أوقد النيران وتحولت إلى حرب شرسة كالتي تجري على الأرض الليبية. والتي تضحي كل يوم بشبابها في سبيل أن يصدّق "ملك الملوك" في أفريقيا بأن شعبه لا يمكن أن يرفض هذه الحياة القاحلة بعد أربعة عقود من الاستسلام والسكوت. فقد اكتشفنا أننا لا نعرف ليبيا، ولا نعرف مدنها، فقد مورس ضد هذا البلد إسكات قسري، ورغم أنها دولة غنية في مواردها لكن فوجئنا برؤية مدن كأنها لم تغادر القرن الماضي يوم لم نكن نعرف الكهرباء أو التنمية العمرانية. فهل نسي التاريخ ليبيا وأراد ثوارها دخول الحياة عنوة والإعلان أنهم على قيد الدنيا بكامل أحلامهم وتطلعاتهم وأصواتهم الإنسانية الصرفة؟ كأننا تعرفنا عليهم اليوم فقط وعلى مدنهم الجميلة، فهل كان على القذافي أن يزج بوطنه في أتون حرب غير متكافئة لولا مدد سماوي سيذهب به نحو مهالك الإهانة التي أذاقها لشعبه طويلاً. كم كان على الشعوب أن تنتظر أكثر لتحصل على حريتها، تلك الحرية التي أعطاها الله لعباده بشكل مجاني، والتي تأتي مع ولادتهم، كيف سرقت من أمة بأكملها تحت عنوان "حتى إشعار آخر"؟ وكأن بعض الزعماء يتعمدون الاستمرار حتى تضطر شعوبهم إلى الوصول إلى المعاملة بالمثل، فيتحول الذليل إلى سيد ويتحول السيد إلى ذليل.. موصوماً بالاتهامات والتي يأتي أولها الاستيلاء على المال العام واستغلال السلطة. تمنيت عليهم أن يكون واحد منهم فقط يعتز بنظافة يده. لم تحمهم أموالهم الهائلة.. ولم تعطهم مناصب أهليهم حصانة ضد الاقتلاع والاتهام. وأصعب ما يمكن هو ما سيكتبه التاريخ عنهم، فقد أضل الله كيدهم لدرجة أنهم ينسون أهمية أن يذكر لهم التاريخ أنهم خرجوا بشرف وأخمدوا نار الفتنة. عرفنا تاريخ البداية، لكن تاريخ النهاية يبدو أنه لن يعرف خاصة وأن الشعوب قد عرفت طريقها نحو الحرية والكرامة ومن ثم الخبز.