تختلف الثورات العربية الحالية عن تجارب التحول الديمقراطي التي عرفتها أغلب مناطق العالم في منتصف القرن الأخير، بدءا من أوروبا الجنوبية في السبعينيات ثم أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية في التسعينيات وأوائل القرن الجديد. حدثت التحولات الديمقراطية المذكورة في سياق صفقات انتقالية بين الديكتاتوريات الحزبية والعسكرية الحاكمة من جهة وقوى المعارضة المناوئة لها من جهة أخرى، وأفضت في الغالب إلى استخدام الهياكل الدستورية القائمة لتمرير التحول (بمراجعتها وتحسينها). حاولت الأنظمة العربية التي انهارت مؤخراً استنساخ تلك التجارب برفع راية الإصلاح المتدرج والانتقال السلس عبر المؤسسات "الشرعية"، بيد أن انتفاضات الشارع خلقت واقعاً جديداً، وغيرت جذرياً قواعد الرهان السياسي. بدأت بعض الأقلام العربية تشكك في مدى قابلية الثورات العربية لإنتاج معادلة التحول الديمقراطي المنشودة. ركز البعض على دواعي الخوف من الفوضى والمجهول ووصول القوى المتطرفة للسلطة، في حين تشبث البعض بالمنطق القانوني والإجرائي للديمقراطية الذي يتمحور في التشريعات والمؤسسات، بدل الانتفاضات العمياء وحركة الشارع المدمرة. طرح الموضوع في تونس بقوة أثر الانهيار المفاجئ للحكم وهروب الرئيس المخلوع. وبعد محاولات فاشلة لتمرير التحول عبر الهياكل الدستورية والمؤسسية القائمة، انتصر منطق الثورة، فحل البرلمان والحزب الحاكم وتغيرت الحكومة وبدأ التحضير لشرعية جديدة تلغي تركة النظام السياسي بكامله. طرح الإشكال ذاته في مصر، وتجلى في النقاش القانوني – السياسي المحتدم حول الإصلاحات الدستورية الأخيرة التي وجد فيها البعض مجرد ترقيعات محدودة لنسق متهرئ لا تتناسب مع سقف الثورة، في حين تمسك البعض بمنطق الشرعية الدستورية بسد الثغرات المعيقة للنقلة الديمقراطية في النسق السياسي. يبدو الإشكال نفسه مطروحاً في اليمن، حيث يتلمس الرئيس "علي عبدالله صالح" مسالك الخروج الآمن من السلطة من خلال دائرة "الشرعية" القائمة متسائلاً عن "حق أقليات منتفضة في الشارع في افتكاك السلطة من أيدي نظام منتخب بإرادة الشعب". والمفارقة القائمة هنا أن رؤساء البلدان الثلاثة المذكورة وصلوا للسلطة عن طريق انتخابات تعددية، احترمت القواعد الشكلية للتنافس، وقد لا تكون احتاجت للتزوير باعتبار موازين القوة القائمة في الحقل السياسي المتمنع على التغير من الداخل. بل إن البلدان الثلاثة لم تعرف قبل أولئك الرؤساء، أي نمط من الانتخابات التعددية، على الرغم من نواقص ونقائص اللعبة التنافسية. فالحقيقة التي لا مراء فيها أن الجمهوريات الاستبدادية العربية عرفت في العقد الأخير كيف تؤمن استمراريتها وتعيد إنتاج نفسها من خلال قوالب التعددية الديمقراطية ولو اقتضى الحال قبول المراقبين الدوليين وفتح وسائل الإعلام العمومية وإشراك القضاء. وهذا هو السبب الأساسي لاندلاع الثورات الراديكالية الأخيرة التي كانت المخرج الوحيد الممكن من نسق تعددي عاجز عن توفير أفق التداول السلمي على السلطة. هل تكون الثورات العربية في منطقها وتوجهاتها غير ديمقراطية، ما دامت تقوض البنية المرجعية للتعددية السياسية بدل العمل على تفعيلها وإصلاحها؟ هل يمكن الدفاع عن ثورات راديكالية تزعزع أنظمة حكم قائمة بالاستناد إلى كتلة هلامية غائمة لا وسائط فيها ولا مكونات محددة (الشعب)؟ أليست الديمقراطية أقل الأنظمة السياسية سوءاً حسب التعريف الرائج، ومن الخطأ والخطر تجاوزها والقفز عليها باسم أحلام الثورة التي كانت دوما نهج الشعبوية الاستبدادية التي تتوهم وتدعي التماهي مع ضمير الأمة ووعي الجماهير؟ وهناك كثير من هذه الآراء والاستدراكات بعد مرور سكرة التجربتين التونسية والمصرية وبعد بروز المصاعب الحادة التي تعاني منها الثورتان اليمنية والليبية. للمسألة جوانب ملتبسة، ترجع إلى إشكالية الشرعية نفسها التي تدخل في باب "المتاهات" المنطقية، باعتبار علاقة الدور التلازمية ما بين الجانب المؤسسي في الديمقراطية والجانب المعياري فيها. فكل ممارسة شرعية تقتضي فعلاً تأسيسياً سابقاًَ عليها. ومن هنا اعتبر الفيلسوف والقانوني الألماني فكرة "السيادة" التي يقوم عليها النسق السياسي الحديث مجرد "حالة استثنائية مستمرة". فمفهوم الشرعية لا يمكن فصله عن مفهوم أوسع هو "الثقة" التي تشكل لحمة النسق السياسي، ومن دونها تتحول المؤسسات القائمة إلى هياكل شكلية فارغة. وإذا كان المفهومان تلازما في التجارب الديمقراطية الحديثة، إلا أن تمايزهما المفهومي والإجرائي يبرز للعيان في فترات التأزم والاحتقان. ترتبط بمفهوم الثقة الأبعاد القيمية والجوهرية في العمل السياسي في ما وراء التحديدات الشكلية للشرعية (في أبعادها القانونية والمؤسسية)، كما أنها إطار تقويم حالة الشرعية التي لا يمكن ضبطها اعتباطياًً في زمنية دورية. ويبين عالم السياسة الفرنسي "بيار روزنفالون" في كتاباته الرائدة حول موضوعات الشرعية الديمقراطية، إن الثقة وإن كانت "مؤسسة غير مرئية"، إلا أنها ركيزة الممارسة الديمقراطية، ولذا أصبح من الضروري بلورة الآليات الإجرائية الناظمة لها إلى جانب آليات الشرعية القانونية. ومن هذه الآليات الفاعلية الاحتجاجية التي كثيراً ما أدت في الديمقراطيات العريقة إلى تقويض الشرعيات الدستورية واستحداث هياكل بديلة قادرة على تأمين الثقة في القيادة الحاكمة. وباستخدام مصطلحات فيلسوف الفعل التواصلي "يورجن هابرماس"، لا بد من التمييز بين العقلانية النسقية الأداتية التي تصوغ إجرائيا وشكليا الدائرة التنظيمية للنشاط السياسي والعقلانية الاجتماعية الشاملة التي تغطي كامل الحراك المجتمعي. فقد تغدو العقلانية النسقية عاجزة عن احتواء واستيعاب الديناميكية المجتمعية، فيغيب الشرط الأساسي في أي ممارسة ديمقراطية الذي هو "عقلنة الهيمنة" من خلال النقاش العمومي الحر. ذلك ما حدث في الجمهوريات العربية، التي طورت هياكل قانونية ومؤسسية مستمدة من المعجم الديمقراطي الأكثر حداثة، لكن في انفصام كامل مع الأرضية العميقة للحراك الاجتماعي، ومع الشروط الموضوعية للتعددية، فلم تنجح في إضفاء الثقة على الشرعيات الشكلية القائمة. لا يعني هذا الكلام القدرة على الاستغناء عن القوالب الإجرائية للشرعية الديمقراطية، وإنما تأكيد حاجة هذه القوالب إلى معين الثقة الذي هو المخزون القيمي للفعل السياسي الحر.