بداية تاريخ استخدام المواد الطبيعية لغرض مكافحة العدوى البكتيرية تعود إلى العصور الغابرة، وربما من بدايات العصر الحجري. ففي مصر الفرعونية، وفي اليونان القديمة، وغيرها من الحضارات الآفلة، كان الأطباء يعتمدون على "خلطات" تحتوي على أنواع من العفن (فطريات) الممزوج مع خلاصة نباتات خاصة، لعلاج الجروح والتقيحات، وغيرها من أشكال العدوى. هذا الأسلوب لا يزال شائع الاستخدام في الدول الفقيرة التي لا يتوفر لأفراد مجتمعاتها نظم رعاية طبية حديثة، وبين القبائل القاطنة للمناطق والجزر النائية، وأدغال الغابات المطيرة. وفي العصر الحديث، ومع اكتشاف العلاقة بين الكائنات المجهرية في أطباق المعامل، وتأثير كل منها على نمو وتكاثر وانتشار الآخر، بزغ فجر المضادات الحيوية التي تنتجها الكائنات الطبيعية. وأول خيوط هذا الفجر، كانت عقار "البرونتوسيل"، والذي يصنف ضمن طائفة "السلفانوميد، ويعتبر أول مضاد حيوي متوفر تجارياً للمرضى، كان قد اكتشفه عالم ألماني "جيرهارد دومجك" (Gerhard Domagk)، ونال عنه جائزة نوبل في الطب عام 1939. ليس بالخفي على أحد أهمية الدور الذي لعبته المضادات الحيوية خلال العقود الثمانية الماضية في ممارسات الطب الحديث، وفي إنقاذ حياة عشرات الملايين من البشر عاماً بعد عام، وهو الدور الذي يتضح من حجم الوصفات الطبية المحتوية على مضادات حيوية، والذي يتخطى عشرات الملايين -وربما مئات الملايين- سنوياً، ويجعل من صناعة المضادات الحيوية صناعة قيمتها عدة مليارات من الدولارات، ويضع هذه الطائفة من الأدوية في مراتب متقدمة دائماً على قائمة أكثر العقاقير الطبية مبيعاً. ولكن هذا النجاح، ترافق بمشاكل عدة، منها المضاعفات الجانبية الخطيرة التي قد تنتج عن المضادات الحيوية، وخصوصاً الأجيال الأولى منها. ومؤخراً، شاب هذا النجاح قضية ازدياد مقاومة البكتيريا المرضية لمفعول المضادات الحيوية، والذي نتج جزء كبير منه من فرط الاستخدام أحياناً، ومن سوء الاستخدام أحياناً أخرى. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، لا يقتصر الإفراط والإساءة في الاستخدام على العامة فقط، بل أحيانا كثيرة ما يكون سببه أفراد المجتمع الطبي أنفسهم، كنتيجة لبعض الممارسات الطبية الشائعة، التي لا تستند إلى أساس علمي. هذه الحقيقة اتضحت بشكل جلي بداية هذا الأسبوع، مع نشر نتائج دراسة أجراها علماء جامعة "كاردف" ببريطانيا، وشملت أكثر من 3 آلاف مريض في 13 دولة أوروبية. هذه الدراسة، نُشرت في إحدى الدوريات الدولية المتخصصة في الأمراض التنفسية (European Respiratory Journal) ، قامت بمراجعة النتيجة النهائية لعلاج مرضى كانوا يشتكون من كحة وسعال، ينتج عنها بلغم عديم اللون في البعض، أو بلغم أخضر أو أصفر اللون في البعض الآخر. هذه المجموعة الأخيرة، تم علاجهم باستخدام المضادات الحيوية، على حسب الحكمة الطبية والممارسات الشائعة، التي تقتضي ضرورة علاج المرضى الذين تتصاحب كحتهم ببلغم ذي لون - والناتج غالباً من عدوى بكتيرية في اعتقاد الكثيرين- باستخدام المضادات الحيوية. وما اكتشفته الدراسة، أنه بعد مرور سبعة أيام على بداية الأعراض وتلقي العلاج، كانت حالة المرضى في المجموعتين، على صعيد حدة الأعراض والوضع الصحي العام، متساوياً تقريباً من دون فرق ملحوظ. وبذلك تكون هذه الدراسة قد أكدت نتائج دراسات أخرى، عشوائية وأصغر حجماً، كانت قد أظهرت أن العلاج بالمضادات الحيوية لمن يعانون من سعال مصاحب ببلغم أخضر أو أصفر اللون، لا يحقق فائدة تذكر. ولكن إذا ما لم تكن هناك فائدة، فما الضرر إذاً؟ إجابة هذا السؤال تقع في عدة أجزاء؛ أولها: أن تعاطي المريض للمضادات الحيوية، والتي هي في الحقيقة مواد كيميائية غريبة على الجسم، يعرضه لمضاعفاتها، والتي غالباً ما تكون بسيطة، إلا أنها أحياناً ما تكون خطيرة. ثانياً، تلقي علاج دون فائدة، أو ذي فائدة بسيطة، يكلف نظام الرعاية الصحية، ويستنزف مصادره المالية، أو أن يرهق المريض مادياً، إذا لم يكن من سكان دولة لديها نظام رعاية صحي قومي أو وطني، أو إذا لم يكن لديه تغطية تأمينية. وحتى من يكن لديهم تأمين صحي، ينتهي بهم المطاف بدفع هذه التكلفة غير المبررة، من خلال رفع شركات التأمين لأسعار وثائق التأمين، لتغطية مصاريفها وتحقيق ربح لمستثمريها. ثالثاً: يخلق الاعتماد على المضادات الحيوية إحساساً كاذباً بالأمان لدى المريض، يجعله يتقاعس عن العناية الصحية بنفسه خلال فترة المرض، مثل الاعتماد على الراحة، والتغذية الجيدة، على أساس أن المشكلة بسيطة، وممكن حلها بابتلاع بضعة أقراص أو كبسولات. رابعاً: يؤدي هذا الإفراط في استخدام المضادات الحيوية -وبالتبعية الاستخدام الخاطىء من قبل الكثير من المرضى- إلى ظهور مقاومة بين البكتيريا لمفعول المضادات الحيوية بمرور الوقت، وهي المشكلة الأخطر في هذه القائمة. حيث تؤدي ظهور مقاومة أجناس من البكتيريا للمضادات الحيوية، إلى فقدان فعالية هذه المضادات، وضياع قيمتها في علاج الحالات التي لا يمكن إنقاذها إلا من خلال المضادات الحيوية. كما أن ظهور مقاومة البكتيريا لنوع من المضادات الحيوية، يتطلب ضخ أموال طائلة في الدراسات والبحوث الرامية للعثور عن أنواع جديدة ذات فعالية، ترفع من أسعار أنواع المضادات الحيوية الجديدة باطراد، وتستنزف ميزانيات شركات التأمين، وترهق الحكومات والأفراد.