لا يكاد يوجد بلد عربي من المغارب إلى المشارق إلاّ ولدى شعبه مظالم وعوامل احتقانٍ تراكمت عبر العقود. أقول ذلك هنا للمرة العاشرة أو أكثر، أمّا عنوان المقال هنا فمستعارٌ من كاتبٍ بريطاني ردَّ عليَّ عام 2007 عندما ذكرتُ بمناسبة التوتُّرات في لبنان وفلسطين آنذاك؛ أنّ البلدين تحوَّلا إلى ساحةٍ للصراعات الإقليمية والدولية، وما ولَّدتْهُ من استقطاباتٍ، وسط الغياب والفراغ العربيين. فقد غزا الأميركيون أفغانستان والعراق، وانتصروا لإسرائيل، وتجاذبوا وتبادلوا الصفقات والصفعات مع قوى إقليمية، ورفعوا شعار الديمقراطية في وجه الأنظمة، ذاهبين إلى أنّ شعوب الأمة العربية سوف تنصرفُ عنهم أو تدعمُهُمْ في مواجهة أنظمتها الاستبدادية! وقلتُ في ذلك المقال إنّ الأميركيين واهمون، فالوقت ليس وقت الإصغاء إليهم وهم الغُزاة، ولدى الأنظمة فُرصةٌ يكونُ عليها انتهازُها من أجل الإصلاح واستعادة الشرعية عبر التقارُب مع شعوبها. وقتَها سِخر من "أَوهامي" أحد معارفي الأكاديميين، هو سامي زُبيدة، وقال في صحيفة "الإندبندنت" إنّ أنظمة المشرق العربي هي مثل الأميركيين تماماً، لا تريد الإصلاح ولا تفكّر فيه، وتعلمُ أنّ استمرارها منذ أزمنةٍ وأزمنةٍ لا يتعلق برضا الشعوب أو غضبها، بل برضا أو سكوت الأميركيين. وتابع زُبيدة أنّ المثقف العربي ليس مهتماً بحريات الشعوب العربية؛ بل بالفراغ الاستراتيجي الذي يُعانيه العربُ بسبب عجز الأنظمة وتَبعيتها. على أنّ زُبيدة وغيره ما كانوا سيئي الظنّ والتقدير بالحدّ الكافي! وما يجري بسوريا منذ أيام، أكبر الأدلّة على ذلك. فالنظام هناك لا تقلُّ مشاكلُهُ مع شعبه عن الأنظمة في مصر وتونس وليبيا واليمن، ولعدة جهات: الأحوال المعيشية، والحريات العامة، ووجود الحزب الحاكم، والفساد، وتاريخ الأجهزة الأمنية. ومع ذلك، فعندما بدأت أحداث ميدان التحرير بمصر قال الرئيس السوري لصحيفة "وول ستريت جورنال"، إنه ليس حليفاً للولايات المتحدة بحيث يحدث عنده ما حدث بمصر وتونس، ثم إنّ الشعب السوري ليس مهيَّأً للديمقراطية ولابد من التدرُّج. ولو عذرناهُ في هذا الكلام، فكيف نعذُرُهُ بعدما حدث ويحدث في ليبيا واليمن! كان بوُسعه فعل الكثير لرسْم معالم مسارٍ يُميِّزُهُ عن الآخرين. إذ عنده من جهةٍ رصيدٌ إقليميٌّ ودوليٌّ يريد له النجاح في تجاوُز هذه المرحلة باعتبار أنّ سوريا كانت قاعدةً للاستقرار طوال عقود رغم كلّ الاهتزازات. إنما المطلوب منه دعم هذا الاستقرار بالاتجاه للإصلاح ولو بالتدريج. فقد مضى عليه في السلطة أكثر من عشر سنوات، ما بلغ فيها عُمُرُ "ربيع دمشق" غير أقلّ من عام. وعنده أعدادٌ كبيرةٌ من المعتقلين السياسيين، ولدى شعبه مصاعب معيشية بالغة، وقد تعرض لضغوطٍ شديدةٍ بلجوء مئات الآلاف من العراقيين إلى البلاد. ونحن نعرفُ الآن أنّ هناك فئات واسعة من الشعب السوري ما كانت مُوافقةً على سياساته في لبنان، وتُجاه "حزب الله". كُلُّ تلك المشكلات المتراكمة منذ عهد والده، والمتزايدة في عهده، ما جرت مواجهتُها إلاّ كما واجهتْها الأنظمة العسكريةُ العربيةُ الأُخرى. فكلُّ حركةٍ مهما بلغ صِغَرُها بالداخل يجري قمعُها بقسوة، ويُتّهمُ بها الأميركيون وعملاؤهم. ومساء الخميس الماضي عندما كانت بُثينة شعبان تُعلن عن قرارات الرئيس وقيادة الحزب، افتتحت إعلانَها بأنّ سوريا مستهدَفة لأنها تدعم "المقاومة"! ويتجاوز الأمر ذلك إلى "المحور" الذي اعتصم به النظام السوري، وبخاصةٍ في سنوات بشار الأسد، ورغم ذلك فالنظام العربيَّ لم ييأسْ منه، وتعاونت السعودية معه في فلسطين والعراق ولبنان من أجل التوفيق والتضامُن واستعادة الاستقرار في البلدان الثلاثة. إنما في الحالات الثلاث حسم النظام أمره لصالح محوره الإقليمي. كنتُ أحسب على مدى أسابيع أنّ النظام السوريَّ يملك فُرصة للاستيعاب والتجاوُز عبر الإصلاح والجرأة في ذلك، وإظهار وجْهٍ للنظام غير ما عرفه الناس منه عبر عقود. لكنّ الذي حصل بدرعا وغيرها في الأيام الماضية، أظهر أنّه ما يزال يعيش في ثمانينيات القرن الماضي، حين كان القمعُ يُمارَسُ ضد الناس تحت شعار: مواجهة إسرائيل وأميركا! لذلك لا أعرفُ الآن ماذا ينبغي أن نتوقَّعه، لأننا بالفعل لا نعرفُ الكثير عن الاتجاهات الشعبية الرئيسية، وإنْ كان الراجح أنّ الشعب السوريَّ مثل سائر الشعوب العربية يريد التغيير والحريات والمشاركة. والأمر في الأردن مختلفٌ بعض الشيء. فـ"الإخوانُ المسلمون" حزبٌ ظاهرٌ ومنظمٌ ويعمل في الشأن العام تحت اسم "جبهة العمل الإسلامي". وكانت العلاقةُ بينهم وبين النظام أفضل أيام الملك حسين، وأوائل أيام ابنه عبد الله. لكنّ النظام تعامل معهم ببعض الاستخفاف وتغيير قوانين الانتخابات باستمرار لإسقاطهم، فسيطرت في أوساطهم قياداتٌ متشددة تدعم "حماس"، وتريد العودة لمحاربة إسرائيل. فمُحازبو "الإخوان" في معظمهم من أصول فلسطينية. بيد أنّ النظام اصطدم أيضاً بجهات قَبَلية أردنية نافذة، لأسبابٍ تتعلق بالتمثيل النيابي وفي مجلس الأعيان، وطرائق تأليف الحكومات المتكاثرة والمتسارعة والمنقضية. كما كان هناك من انزعج لانحياز زوجة الملك إلى الفلسطينيين! وتعرض الأردن أيضاً لضغوطٍ شديدةٍ من جهة العراق؛ إذ لجأ إليه حوالي مليون عراقي معظمهم من السنة، مثلما حدث مع سوريا. وبذلك فقد أُضيفت المشكلات المعيشية والتنموية إلى المشكلات السياسية. ولاشكَّ أنّ التحرك الثوري العربي، والذي يلعبُ فيه الإسلاميون دوراً بارزاً، شجَّع "إخوان" الأردنّ على المُضيّ بمطالبهم إلى الحدود القُصوى؛ بحيث يتعذر إمكان التفاوُض أو الوصول إلى حلولٍ وسط. فهناك من جهة احتمال التطور إلى نزاع أردني فلسطيني. وهناك احتمال عودة الفكرة الإسرائيلية الخبيثة بشأن" البديل الأردني"، أي أن يسيطر فيه الفلسطينيون ويصبح "الوطن البديل"! بدأ الباحثون الاستراتيجيون الأميركيون، في زمن الثورات العربية، يقسمون المجتمعات العربية إلى قسمين: المجتمعات الصافية، مثل تونس ومصر، وهذه يمكن أن يتغير النظام فيها دون أن تتهدد وحدتها المجتمعية أو السياسية. والمجتمعات المختلطة، وهي التي لا ينبغي أن يتغير النظام فيها بسبب الأخطار التي يمكن أن تتهدد وحدتها الداخلية، وإنما يجب الآن أن تتغير السياساتُ فيها باتجاه الرحابة والانفتاح الديمقراطي. ولاشكّ أنّ ليبيا واليمن وسوريا والأردن والبحرين، هي بلدانٌ في مجتمعاتها اختلاطٌ يمكن أن يحدث فيه انقسامٌ؛ لذلك يكون من الضروري أن تُسارع أنظمتها إلى إجراء إصلاحات جذرية تحقق شيئاً من المشاركة السياسية. إنما يبدو أنّ هذه الأُمنية فات أوانُها في ليبيا واليمن، والمرجوّ أن لا يفوتَ ذلك في الأردن وسوريا والسودان وموريتانيا والبحرين، رغم كل ما جرى حتى الآن.