ما الذي جعل حركات التغيير الجديدة تنتشر في العالم العربي؟ تساءل د. أحمد منيسي. لماذا فاجأت قوى التغيير الجذري أنظمة راسخة استعصت على كل أشكال المعارضة التقليدية وكل الأحزاب السياسية ذات الخبرة العريقة في النضال والجهاد والمقاومة؟ أسباب نجاح هذه الحركات، كما يشرح في كتابه عن "حركات التغيير" متعددة، فتلك الحركات مثلاً "غير ملزمة"، ولا يتطلب اكتساب عضويتها إجراءات بيروقراطية معقدة، كما هو الحال مع الأحزاب المشروعة. فلا غرابة إن نجحت هذه الحركات في نقل فعل الممانعة والاحتجاج من الأطر النخبوية والحزبية الضيقة إلى الفضاء العام، فكان نزولها إلى الميادين العامة تظاهراً واحتجاجاً مصدر فاعليتها وذيوع صيتها. حولت حركات التغيير الغموض والعموميات في خطاباتها الفكرية إلى سلاح فعال في البحث عن أوسع تحالف حزبي ممكن! فهيئة "18 أكتوبر للحقوق والحريات" في تونس مثلاً، والتي تعد إحدى أهم حركات التغيير الجديدة في العالم العربي، تشكلت من تحالف يضم الإسلاميين والعلمانيين تحت مظلة واحدة، وقد توافق الطرفان حول القضايا السياسية العامة المتصلة بالإصلاح السياسي، وإن لم يدم هذا التوافق، حيث فقدت الهيئة فاعليتها وقدرتها على تحقيق أهدافها. ومن السمات المميزة الأخرى لحركات التغيير الجديدة في البلدان العربية "الطبيعة السلمية " لها، وحصر مطالبها في التغييرات الدستورية والقانونية، والاعتماد على أسلوب العمل السياسي المباشر في الشارع وبين الجماهير. ويقف د. منيسي أولاً عند تجمع "إعلان دمشق"، الذي تأسس في بداية حكم بشار الأسد، عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. وقد سبقت ظهوره عدة تجمعات ولجان، حيث شهدت سوريا بعد عام 2000 ظهور العديد من المنتديات السياسية لعل أهمها "منتدى الأتاسي للحوار الديمقراطي". وقام المنتدى على خليط من التوجهات السياسية، ولكن غالبية أعضائه ذوي خلفيات قومية ويسارية، ورئيسته هي السيدة سهير الأتاسي، ذات التوجه الناصري. وكان من أبرز صور الحراك السياسي الذي شهدته سوريا خلال العقد الحالي، ظهور فريق من المعارضة السورية، وهو "التجمع الوطني الديمقراطي"، إلى العلن. ويكشف البيان التأسيسي لتجمع "إعلان دمشق" أولاً عن موقف جديد، "يعتبر أن النظام الحاكم فشل وعجز عن الوفاء بوعوده الإصلاحية". كما نص على "ضرورة التغيير الجذري في البلاد ورفض كل أشكال الإصلاحات الترقيعية أو الجزئية أو الالتفافية". وأقر البيان "أولوية الديمقراطية، وأنها خيار نهائي لا رجعة عنه والمخرج الوحيد من الأزمة الراهنة". إلا أن البيان اكتفى "بعرض أنصاف الحقائق في قراءته للعديد من القضايا ذات الطابع الإشكالي، كالاقتصاد الحر أو القومية أو الدين". ويقول الباحث إن إعلان دمشق وُلد نخبوياً، فقد ضم نخبة مثقفة ليست لها جذور شعبية قوية، وليس لديها خبرة في مجال العمل السياسي المباشر. كما تعرضت رموز التجمع للاعتقال مثل د. فداء الحوراني ورياض سيف وأكرم البنى وفايز سارة. وكانت التهمة "نشر أخبار كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة". ولم ينج تجمع إعلان دمشق من عوامل الانقسام الداخلية شأنه في ذلك شأن كثير من حركات التغيير الجديدة. وكانت المشكلة الأولى التي واجهت التجمع تحالف جماعة الإخوان المسلمين، التي انضمت إلى إعلان دمشق منذ ولادته، مع عبدالحليم خدام بعد انشقاقه عن النظام الحاكم وإقامتهم "جبهة الخلاص الوطني"، حيث قوبلت هذه الخطوة برفض عدد من التيارات السياسية داخل التجمع. ومثلت العلاقة مع الخارج محور خلاف داخل تجمع إعلان دمشق أيضاً. فقد رفض التكتل الليبرالي تمرير أي عبارة تتضمن اتهاماً لدور الولايات المتحدة في المنطقة، كما لا يمتلك تجمع إعلان دمشق وسيلة إعلام جماهيرية لمخاطبة الآخرين، فليس لديه جريدة ولا محطة إذاعية ولا قناة تلفزيونية. في تونس، تم تأسيس "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" في ديسمبر 2005، وضمت العديد من القوى والتيارات السياسية، منها الحزب الوطني التقدمي، وحركة النهضة الإسلامية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وحزب العمال الشيوعي التونسي، والمؤتمر من أجل الجمهورية، فضلاً عن شخصيات نقابية وحقوقية. وقد تشكلت الهيئة في مناخ داخلي غلب عليه تصاعد الاحتقان السياسي بشكل غير مسبوق بين السلطة وقوى المعارضة. ونجمت الهيئة عن "إضراب الجوع" الذي قامت به مجموعة من قادة المعارضة والشخصيات العامة احتجاجاً على ممارسات السلطة وقمعها الحريات العامة ومنظمات المجتمع المدني. ويقوم د. منيسي بتقييم لتجربة الهيئة، فيرى أنها كانت علامة بارزة في نضال التونسيين من أجل الديمقراطية، وكان تشكيلها تطوراً نوعياً مهماً في وعي قوى المعارضة، حيث فرضت وجودها على الواقع السياسي التونسي. أما جوانب القصور في أداء الهيئة فتتبلور في عدم استطاعتها صياغة برنامج سياسي-فكري متكامل يحدد هويتها وأولوياتها. وفشلت الحركة بشكل واضح في خلق قاعدة شعبية لها في أوساط المجتمع وبخاصة قطاع الشباب، كما لم تتمكن الحركة من ضم فصائل وقوى معارضة مهمة وهم حركة التجديد، وهو الحزب الشيوعي سابقاً، وحزب العمل الوطني الديمقراطي وغيرهما. ولم تستطع الحركة إنجاز فضاء للحوار بين كل التيارات حول آليات الانتقال الديمقراطي، بل لم تستطع بلورة هيكل تنظيمي واضح للحركة نفسها. وكان سبب هذه الإخفاقات، الخلاف حول أولويات الحركة، وتنافر مكونات الهيئة، الأمر الذي خلق أزمة ثقة بين أطرافها وبخاصة بين الجناحين العلماني والإسلامي، والحصار الأمني الشديد الذي فرضته السلطة على الهيئة بعد أن منعت الأجهزة الأمنية الهيئة من القيام بجولة داخل البلاد، كما منعت أنشطة الهيئة منذ الأسابيع الأولى لنشأتها، وملاحقة رموزها، بالإضافة إلى "الحملة المنظمة التي استهدفتها من قبل الخصوم الأيديولوجيين للإسلاميين والتي قامت على التخوين أكثر مما قامت على النقاش الموضوعي، كالقول بأن المطالب الإصلاحية للهيئة تندرج ضمن الأجندة الأميركية للإصلاح الديمقراطي في المنطقة، والتي تهدف بالأساس إلى ادماج الإسلاميين في العملية السياسية".