من بين جرائم لا تُحصى ارتكبها نظام القذّافي، بحقّ شعبه والشعوب العربيّة وشعوب العالم، ثمّة جريمة تستحقّ التوقّف عندها لأنّها كانت الأقلّ إثارة للاهتمام والتعليق. إنّها جريمته ضدّ أفريقيا، ولو أنّنا سنكتفي هنا بتجربته مع بلد واحد هو تشاد. من المعروفٌ أنّ منطقة فزّان في الجنوب الليبيّ تمتدّ جنوباً حتّى تخوم النيجر ومالي وتشاد شاملةً مساحات صحراوية واسعة تسكنها قبائل المحاميد والتبو. وعبر هذا التقاطع الجغرافيّ تقدّمت قوّات القذّافي، عام 1973، لتنتزع من تشاد شريط أوزو الحدوديّ والغنيّ باليورانيوم الذي اعتبره القذّافي جزءاً من ليبيا. وهو أمر ترتّبت عليه حروب ومواجهات لاحقة نجم عنها سقوط آلاف القتلى فضلاً عن دمار هائل في الموارد. فتشاد، مثل جارتها السودان ومثل كثير من بلدان الحزام الساحليّ، منقسمة انقساماً عميقاً بين جنوب أفريقيّ مسيحيّ وشمال عربيّ مسلم، وهذا ما وفّر للعقيد الليبيّ الفجوة المجتمعيّة المناسبة للاختراق. لكنْ في تشاد، وعلى عكس السودان، يمثّل الشطر الجنوبيّ الجزء المزدهر نسبيّاً من البلاد لأنّ الفرنسيّين سبقوا أن حوّلوه، إبّان استعمارهم له، منطقة منتجة للقطن. ومع نيل تشاد استقلالها عام 1961، أمسك الجنوبيّون بمقاليد السلطة، وتولّى زعيمهم فرانسوا تومبلباي رئاسة الجمهوريّة. وهذا ما أثار قبائل الشمال ودفعها، في عام 1965، إلى الانتفاض، فانطلقت دورة من النزاع الأهليّ استفاد منها القذّافي والفرنسيّون وسواهم، مدوّلين الحرب التشاديّة. بيد أنّ تشاد والصراع مع النفوذ الفرنسيّ فيها شكّلا محطّة أولى للقذافي على طريق بناء إمبراطوريّة عربيّة تمتدّ عبر منطقة الساحل. وعلى هذا النحو سارع العقيد إلى تأييد "جبهة التحرير الوطنيّ" (فرولينا) المعروفة بعدائها للجنوبيّين والفرنسيّين، ومدّها بالأسلحة والمعونات. وفي عام 1979 انفجرت الحرب الأهليّة على أوسع نطاق، وتمكّن المسلّحون الشماليّون المدعومون من ليبيا من إطاحة الحكم الجنوبيّ والاستيلاء على العاصمة نجامينا، فيما انفجرت موجة مذابح ضدّ الجنوبيّين. لكنّ أحد قادة "فرولينا"، وهو حسين حبري، سرعان ما اصطدم بالطموحات الليبيّة، حيث تراءى للقذّافي أن يُبقي قوّاته في العمق التشاديّ، وأن يكون الحاكم الفعليّ للبلاد بالتحالف مع غوكوني وداي، القياديّ الآخر لـ"فرولينا". وفي هذا الإطار تمكّنت القوّات الليبيّة وقوّات غوكوني، عام 1980، من إطاحة حبري، المتحالف آنذاك مع الولايات المتّحدة ومصر السادات، وإبعاده عن وزارة الدفاع، ما دفعه إلى الفرار إلى الكاميرون. وقد بلغ الغضب الأفريقيّ على "الاحتلال العربيّ" لتشاد ذروته في عام 1981، حين أُعلن عن وحدة هزليّة أخرى من وحدات القذّافي، كانت هذه المرّة مع تشاد. لكنْ في العام التالي عاد حبري عودة مظفّرة إلى نجامينا، مدعوماً من واشنطن والقاهرة والخرطوم (نميري)، ليواجه تمسّك القذّافي باحتلال أجزاء واسعة من بلاده. وفي تلك الحرب بينهما، بدت فرنسا ممزّقة بين تمسّكها بالإجماعات الغربيّة وبين صداقة مستجدّة بليبيا القذّافي التي صارت من الزبائن البارزين للسلاح الفرنسيّ، لاسيما طائرات ميراج الحربيّة، فضلاً عن التزوّد بكميّات ضخمة من النفط. بيد أنّ عام 1987 كان عاماً حاسماً، وكانت فرنسا، في هذا الأثناء، قد حسمت أمرها، فتمكّن حبري، عبر قائديه العسكريّين البارزين، حسن جاموس وإدريس دبي، من أن يوجّه ضربات قاصمة للقوّات الليبيّة عبر الحدود، منزلاً بها عدداً من الهزائم المذلّة. وكان في عداد ذلك الاستيلاء على مواقع أساسيّة أقامها الجيش الليبيّ شمال تشاد والاستيلاء على القاعدة الجوية في عوادي دوم وعلى بلدة فايا لارغو. هكذا انتهت الحرب عمليّاً في ربيع 1987 وأُخرج الجيش الليبيّ من تشاد، لكنّ القائدين المذكورين قرّرا، في 1988، الذهاب أبعد من ذلك فقاما بغزو فزّان نفسها وتولّت قوّاتهما تدمير قاعدة عسكريّة ليبيّة ضخمة في معطن السرا، حيث قضت على أسطول جويّ كامل فيما هو جاثم على الأرض. يومها، وعملاً بولع القذّافي بـ"ثقافة" المرتزقة، استعان بعشرة آلاف مقاتل لبنانيّ خدعتهم أحزابهم وأقنعتهم بأنّهم يتصدّون هناك لـ"الإمبرياليّة والاستعمار" ويدافعون عن "العرب وحقّهم في نفطهم"، فلم يعلموا إلاّ لاحقاً أنّهم إنّما بيعوا كمرتزقة كي يقاتلوا بالنيابة عن "الأخ العقيد". لكنّ حرب تشاد كانت لها تتمّة في السودان: فمن سوء حظّ دارفور جغرافيّاً أنّها تحاذي ليبيا وتشاد معاً. وفي الثمانينيات، حين حلم القذّافي بإنشاء "حزام عربيّ" على امتداد أفريقيا الساحليّة، ركيزته السيطرة على تشاد انطلاقاً من شريط أوزو، استخدمت الفصائل التشاديّة التي دعمها منطقة دارفور كقاعدة خلفيّة، واضعين يدهم على قطعان أهل القرى ومستولين على مواسمهم وغلالهم. هؤلاء كان لهم "فضل" آخر هو أنّهم من وزّع السلاح على مَن عُرفوا في وقت لاحق بـ"الجنجاويد" ممّن ارتكبوا مذابح دارفور. ذاك أنّ القذّافي كان قد جمع أفراداً من العرب السواحليّين والطوارق وسلّحهم. ولئن حُلّ هذا الفيلق مع حلول الهزيمة عام 1988، فإن أعضاءه المسلّحين والمدرّبين والذين يحملون أوهام "التفوّق"، استمرّوا في نشاطهم تحت عناوين ومسميّات أخرى. فهل يمكن لمن أراد طوعاً أن يفشل ويؤذي ويبدّد، أن ينجح في إحراز كلّ هذا الفشل والأذى والتبديد؟