في خضم الفرحة بانتصار الثورة، والزهو بالوطنية المصرية، وتحليل عناصر نجاحها، والتبصرة بتحدياتها، والتنبيه على المخاطر التي تواجهها، يبدأ التحذير من خطر الشقاق. وبعد أن نشبت في تونس الشرارة، والثورة في مصر، وتوالت الثورات الشعبية في ليبيا واليمن، والمظاهرات في الأردن والعراق والمغرب والجزائر، وبدأ الحكام يعون متطلبات الشعوب، ويقدمون برامج إصلاحية، وبعد أن أصبحت الثورات العربية الحديثة محط أنظار العالم يستلهمونها وتلقى كل الاحترام الواجب، بدأ الخوف يدب في قلب بعض المفكرين العرب الذين يودون حماية الثورة، وإنْ لم يكن قد ساهموا في صنعها بعد أن تجاوزهم الشباب وحركات الشعوب. وبعد نجاح أول تجربة ديمقراطية في مصر منذ انتخابات 1976 بعد تشكيل الأحزاب الثلاثة، الوسط واليمين واليسار بفعل السلطة، بل وفي عمر الثورة المصرية على مدى ستين عاماً إكمالاً لها، وبما كان ينقص إنجازاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبعد إقبال الناس والوقوف بالطوابير من الصباح الباكر قبل فتح اللجان الانتخابية حتى المساء المتأخر بعد غلقها لممارسة حق الانتخاب إحساسا منهم بالمواطنة لأول مرة، وأن رأيهم يُؤخذ بعين الاعتبار، وأنه لا تزوير ولا عصي ولا هراوات ولا إخراج النتيجة سلفاً قبل إجراء الاستفتاء، ومعرفة ما في الصناديق الانتخابية قبل فتحها، وبعد ما أظهره الناخبون من تحضر ونظام، وإعطاء الأولوية لكبار السن وذوي الحاجات الخاصة، وبعد الاطمئنان إلى القضاء وضمان جدية الانتخابات وإيصال أصوات الشعب بدأ الشقاق، من نجح ومن رسب؟ من اقترب من السلطة ومن أزيح عنها؟ وبعد أن كانت ثورة 25 يناير وطنية لا حزبية، تجمّع ولا تفرّق. لا فرق بين ديني وعلماني، بين سلفي وتقدمي، بين مسلم وقبطي، بين ليبرالي واشتراكي، بين رأسمالي وماركسي، الكل يدافع عن الحرية، فالحرية تسبق العدالة الاجتماعية والمطالب الفئوية، وبعد أن أصبح الإخوان جزءاً من الحركة الوطنية وليس جماعة منعزلة لها مطالبها النظرية الخاصة. فالحياة أخذ وعطاء، والاتجاه نحو النسبية في الأحكام بعيداً عن المطلقات والكليات التي تقسّم ولا تجمّع، تفرّق ولا توحّد، وبعد أن ظهرت الوحدة بين المسلمين والأقباط، بين الهلال والصليب، وعقدت الصلوات الإسلامية والمسيحية في ميدان التحرير، يحرس المسيحيون المسلمين في صلاتهم، ويحرس المسلمون المسيحيين في صلاتهم، وبعد تكشف أن ما يسمى بالحوادث الطائفية من تدبير أجهزة الأمن لتمرير قانون الطوارئ وسيطرة الأمن على الحياة العامة في البلاد، بعد هذه النجاحات كلها بدأ الشقاق بعد نتائج الاستفتاء حول التعديلات الدستورية، وتقسيم المصريين إلى فصائل واتجاهات وجماعات حول نتائج الانتخابات، "الإخوان" مع فلول النظام السابق وراء الأغلبية، ثلاثة أرباع الأصوات، والثوار بكل فصائلهم مع الأحزاب التقدمية القديمة وراء الأقلية. بدأت الأقلية تهاجم الأغلبية، والأغلبية تدافع عن نفسها وكأن الحصول على الأغلبية جريمة يُعاقب عليها، والحصول على الأقلية ظلم يجب رفعه. الأغلبية تآمر وتحالف وخديعة والتفاف. والأقلية أخذت على غرة، وأزيحت عن حضورها الطاغي في قلوب الناس ظلماً وعدواناً. وكيف يتفق الإخوان مع فلول النظام السابق وهم الذين قاسوا منه أبشع أنواع الظلم والاضطهاد، والسجن والتعذيب منذ 1954 وحتى الآن؟ إن طبيعة الديمقراطية أن تكون بها أغلبية وأقلية. وكلاهما مخلصان لصالح الوطن. لا يوجد وطني وخائن، مخلص وعميل. فالأقلية اليوم أغلبية غداً. والأغلبية اليوم أقلية غداً. المهم التعلم من التجارب، ومعرفة الأسباب دون تكفير أو تخوين أو تآمر أو استبعاد. مازال منطق "الفرقة الناجية" هو الذي يحكم العمل السياسي، منطق الإقصاء والاستبعاد. فالحق في طرف واحد، ومع فصيل واحد. وهو ضد منطق التعددية السياسية والحوار الوطني. ينتهي إلى ضرب الثوار بعضهم ببعض ونسيان العدو المشترك، وهو النظام السابق، القهر والفقر والفساد والتبعية. وإذا كان الدين هو المكون الرئيسي في الثقافة الوطنية، فمن الطبيعي أن يدخل كعامل في الدعاية لهذا الفريق أو ذاك. القضية هي سوء تفسير الدين كتبرير لاتجاه سياسي واستعمال المساجد والمنابر كأداة للدعاية الانتخابية. والتحدي هو الاكتفاء بالنقد والصراخ والبكاء على ذلك دون كشفه ودون إعطاء تفسير بديل للدين. ويكون ذلك مرحلياً حتى يتحول المجتمع كله من القديم إلى الجديد، وتنتقل الثقافة كلها من ثقافة دينية إلى ثقافة عقلية علمية واقعية، والعقل والواقع هما دعامتا الشرع. بدلاً من الهجوم على بعض التيارات واتهامها بالتحالف مع فلول النظام السابق وبث روح الشقاق بين الفصائل الثورية في ميدان التحرير فإنه يمكن تشجيع الأجنحة الليبرالية فيها. لماذا لا يتم مساعدة "الإخوان" في التحول من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية، ومن الجماعة الدعوية إلى الحزب السياسي؟ والخلافات النظرية حول المادة الثانية من الدستور فزّاعة للعلمانيين والأقباط وعن حق. فالدولة مفهوم مجرد لا دين لها. إنما المواطنون هم الذين لهم دين. فالأصح ليس دين الدولة هو الإسلام بل دين غالبية المواطنين هو الإسلام كما أن دين الأقلية هي المسيحية. وما فائدة ذلك؟ تقسيم المواطنين طبقا للدين يمنعه الدستور الذي ينص على مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات. مادة تضر أكثر مما تنفع، صورة بلا مضمون. وإذا كان الإسلام دين الدولة فهل يقبل الإسلام الفقر والقهر والفساد والتبعية والظلم والتشرد في الشوارع وثراء الحكام، والحاكم آخر من يأكل وآخر من يلبس وآخر من يسكن. "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا". "والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها يا عمر لماذا لم تسوِ لها الطريق؟". "ليس منا من بات شبعان وجاره طاو"، "الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار"، "لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟"، وهي راسخة في قلوب الشعب وفي ثقافتهم الوطنية لا تحتاج إلى تذكير، ونحن أضعنا مياه النيل، وبعنا الأراضي، وخصخصنا المصانع. المادة الثانية تعني "مبادئ الحرية والعدل في كل الأديان هي مصدر للتشريع والمبادئ التي يستنبط منها الدستور، وتقوم عليها الدولة". وقانون البناء الموحد للمدارس والمستشفيات والأندية الرياضية، يستفيد منها جميع المواطنين على قدم المساواة وليس بناء المساجد والكنائس التي يستفيد منها فريق دون فريق، والصلاة قد تكون في العراء لا تحتاج إلى أبنية أشبه بالقصور. وهو الدين الفطري الطبيعي دين قضاء مصالح الناس. هذا ليس دفاعاً عن حزب أو جماعة أو تيار أو فريق، بل هو دفاع عن الوحدة الوطنية ونداء للحوار الوطني وليس للخصام السياسي، حفاظاً على الثورة ونجاح بداياتها والاطمئنان على نجاح نتائجها. وإن ما حدث من نتائج في الاستفتاء الأخير حول مواد الدستور ليس وراءه هذا الفصيل أو ذاك، بل هو منطق طبيعي للثورات، والاختيار بين طريقين، الإصلاح أم الثورة، التدرج أم الخطوة الواحدة، الجزء أم الكل دون تآمر أو تحالف وراء الأغلبية في مواجهة الأقلية. وهو ما يحدث في تونس أيضاً. نحن لن نشق على قلوب الناس. وقليل من إنكار الذات وكثير من النقاء الثوري يساعد على إنجاح الثورة واتقاء مخاطرها.