تحمل معطيات التغير الديمقراطي في المنطقة العربية دلالات عديدة، فبعض هذه التغيرات خاصة في مصر وتونس كانت ذات طابع سلمي، وحافظ الجيش والمؤسسة العسكرية فيها على طابع الحياد، بل دفع في بعض الأحيان بعجلة التغيير إلى الأمام، لكنه لم يتدخل في السلطة إلا لماماً، أو كأخ أكبر يحاول الحفاظ على مؤسسات الدولة وكياناتها، حتى يتم تسليمها إلى قيادات مدنية جديدة. وكما هي العادة فإن معظم الثورات يقودها إيمان عميق بتغيير إيجابي، ويمكن أن يكون الحال كذلك، لكن مثل هذه المقولة لا تقود بالضرورة إلى نهايات حتمية، بل هي أشبه ما تكون بنهايات محتملة، وتحتمل كذلك فرصاً متعددة للنجاح أو الفشل، فالثورة نفسها يمكن أن تكون ذات طابع سلمي قد يقود خلال فترة وجيزة إلى نظام سياسي جديد. ولكن يمكن أن يكون الحال عكس ذلك تماماً، وتقود هذه الثورات إلى حروب أهلية ضروس كما هو الحال في ليبيا اليوم. من ناحية ثانية، فإن هذه الثورات لا تعتمد على الشعارات فقط، ولكنّها تطالب بمستوى حياة متقدم، وبمكتسبات اقتصادية للأفراد، مثل حصولهم على وظائف تؤمن لهم دخلاً كافياً يسمح لهم بتكوين عائلات جديدة، ويؤمن لهم الحد الأدنى من المستوى المعيشي. ويتطلب هذا أن تنتهي هذه الثورات، بعد نجاحها، باستقرار سياسي كافٍ يسمح لعجلة الاقتصاد أن تدور من جديد، وأن يزاول الناس بعدها أعمالهم كما كانوا يفعلون من قبل. والحقيقة أن عملية التغير الديمقراطي الحالي في العالم العربي، ليست الأولى من نوعها، فقد سبقتها موجتان أخريان في التغير الديمقراطي. فبلدان أوروبا الشرقية انعتقت من ماضيها القديم عام 1989م ،وانطلقت في مسار ديمقراطي خلال فترة التسعينات، وقد استفادت تلك البلدان من علاقة زعماء المعارضة فيها بالقيادات الأوروبية في الاتحاد الأوروبي، التي رحبت بقدومها وسهلت عملية التحاقها بالنادّي الأوروبي، وساعدت في تمكين المؤسسات الديمقراطية فيها، وسعت إلى تسهيل امتصاص اليد العاملة الفائضة فيها إلى بقية الاقتصادات الأوروبية المزدهرة حينئذ. كما أن مثل هذا التوجه السياسي تبعه كذلك توجه تجاري بأن توسعت الشركات الأوروبية في بلدان أوروبا الشرقية وانتقلت مصانع بأكملها من ألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية نحو الشرق، مستفيدة من القرب المكاني، والرخص النسبي لليد العاملة في بلدان أوروبا الشرقية. كما أن التوسع في أعمال البنوك وفي السياسات النقدية في البلدان الأوروبية وفي الولايات المتحدة، ساعد على توجه أموال هائلة، بعضها ساخن، إلى أسواق روسيا وبلدان شرق أوروبا. وهو ما ساعد تلك البلدان على النهوض من كبوتها واستعادة عافيتها الاقتصادية حتى غدت مستويات النمو الاقتصادي السنوي فيها تضاهي مثيلاتها في الاقتصادات القديمة في غرب القارة. ومثل هذا القول، ينطبق وإلى حد أقل على الموجة الثانية من التحول الديمقراطي التي حدثت، ومن دون ضجة في بعض البلدان الأفريقية، في جنوب القارة وغربها. فقد ساهم توافر الأموال لدى البنوك وصناديق الاستثمار الغربية على تسويق هذه الأموال واستثمارها في مشاريع صناعية وتعدينية في بلدان القارة الأفريقية، وساهم في دعم مستويات النمو الاقتصادي فيها. الوضع في البلدان العربية مثل مصر وتونس ربما يكون مختلفاًً، فكلا الثورتين أتيتا في فترة انكماش اقتصادي عالمي، وتوجه لدى الدول الصناعية للانكفاء السياسي والاقتصادي، لتحريك الاستثمارات في الداخل وإعادة عجلة النمو الاقتصادي الداخلي فيها، بعد أن تراجعت مستويات النمو فيها. وهذا يعني أن الاستثمارات الأجنبية لن تكون متوافرة للاقتصادات الجديدة في البلدان العربية، خاصة وأن الاستثمار الأجنبي سيتطلب استقراراً سياسياً موازياً كي يتحرك ويخلق وظائف جديدة داخل تلك البلدان. كما أن كلاً من تونس ومصر يعتمدان بصورة رئيسة على السياحة الأجنبية حيث تمثل لكلا البلدين مصدراً رئيساً من مصادر الدخل القومي فيهما. لذلك فإن استعادة الحياة الاقتصادية في كلا البلدين يتطلبان رؤية ثاقبة إلى المستقبل، ونظرة إيجابية نحو جذب الاستثمارات الأجنبية، كما يتطلبان كذلك الدفع بقوانين جديدة من قبل الهيئات التشريعية المنتخبة في هذه البلدان تحد من التضخم، وتيسر شروط العمل ما يسمح للعمالة بالحصول على مستويات مقبولة من الرواتب، ولا يطرد المستثمرين الأجانب إلى بلدان وأسواق منافسة أخرى. وربما كان حظ مصر وتونس أفضل بكثير من بقية البلدان العربية التي تعرضت لثورات مماثلة. ففي ليبيا واليمن، يعاني كلا البلدين من ضعف المؤسسات المركزية للدولة فيهما، وإلى تعميق البعد والولاءات المحلية والطائفية على حساب الولاءات الوطنية، وإلى غياب أيديولوجية وطنية أو قومية جامعة. ومثل هذه الخصائص لا قدر الله قد تقود هذه البلدان إلى حالة مشابهة للحالة الصومالية، حيث أن غياب الزعيم الأوحد في تلك البلدان، قاد إلى تفككها على أساس مناطقي وقبلي، وإلى انهيار الدولة ومؤسساتها واستفحال الحروب الأهلية فيها. ما نرجوه وما نأمله هو أن تتحاشى البلدان التي تعيش حالة من التغير الديمقراطي في العالم العربي مثل هذا المستقبل، وأن تنظر وتعمل من أجل غد أفضل، سياسياً واقتصادياً.