عدت إلى بلدي السودان في زيارة امتدت لبعض الوقت، لأتعرف على الواقع الحقيقي، ذلك الواقع الذي لا تتصدر حقيقته الصفحات الأولى في الصحف السودانية إلا ما ندر. على السطح تبدو المشاكل والأزمات التي تشغل الساسة والقادة فيما بعد انفصال الجنوب هي "القضايا العالقة" (أبيي والجنسية والديون الخارجية.. إلخ) والخلاف المكرر حول الحكومة ذات القاعدة العريضة حسب مقترح حزب "المؤتمر الوطني"، والحكومة ذات الأجندة الوطنية حسب مقترح تحالف قوى المعارضة. لكن عندما يغوص المرء في أعماق المجتمع السوداني، ويعيش وسط عامة الناس ويستمع إلى آرائهم ومشاكلهم اليومية ومطالبهم المشروعة... تتكون لديه صورة قاتمة؛ ليس في الجنوب وصراعاته القبلية، ولا الأقاليم المهمشة فحسب، بل في قلب المدن الكبيرة. وأخطر من ذلك أن الحكومة تبدو مشغولة في مؤتمرات وزرائها الصحفية التي تتحدث عن مستقبل زاهر خاصة بعد أن "ارتاح الشمال" من صراع الجنوب! "حزب المؤتمر الوطني" وقادته يعيشون خارج زمن الانفجارات المتتابعة في العالم العربي، بداية بثورتي تونس ومصر وانتفاضتي ليبيا واليمن... فالسودان في نظرهم ليس تونس ولا مصر ولا ليبيا، بل محصن ضد أخطار الثورة الشعبية لأن "الإنقاذ" تحظى بمساندة وتأييد 90 في المئة من السودانيين الذين رأوا بأعينهم ولمسوا بأيديهم إنجازاتها، مما جعل الشعب يقاطع دعوات المعارضة للتغيير وما تهدف إليه من إجراءات دستورية وقانونية وسياسية قبل يوليو القادم! ولأن أحزاب المعارضة ليس لديها ما تقدمه للشعب السوداني، لذلك فكل دعوة للتظاهر السلمي مصيرها الفشل. وفوق ذلك فالاستراتيجية الأمنية التي اعتمدتها الحكومة بعد الانتخابات أكسبت النظام شرعية ديمقراطية ودستورية، إذ فاز رئيسه بأكثر من ثمانين بالمائة من أصوات الناخبين، والبرلمان أصبح مجلساً تشريعياً خالصاً لحزب المؤتمر الوطني. لكن الواقع الذي تتجاهله الحكومة ولم تنتبه له المعارضة إلا مؤخراً، يقول غير ذلك، فقد أقسم لي عجوز كبير أن "هذه حياة أصبح الموت أريح للإنسان منها". وعندما يبلغ الضيق واليأس بالناس هذه الدرجة فماذا يقول المرء؟! القضايا الأخطر من "القضايا العالقة"، هي تلك التي تمس حياة غالبية الناس اليومية، والتي يكابدها الأطفال المشردون والنسوة المتسولات اللاتي جعلن من مواقف إشارات المرور مكاناً يتمنى المرء أن ينجو بجلده منه تاركاً سيارته وراءه، وتراها وتلمسها في ردهات المستشفيات الحكومية حيث تنعدم أبسط مقومات العلاج، وتسمعها في أخبار تظاهرات الطلاب داخل جامعاتهم لأن بعضهم منع من الجلوس لأداء الامتحان بسبب العجز عن تسديد ما عليه من الرسوم الباهظة، وعندما تقرأ أن ولاية الخرطوم -بالاتفاق مع جهاز الأمن القومي- ستبني على عجل عشرات المخابز وستوفر مليون قطعة خبز يومياً وبسعر مدعوم! إن القضايا والأزمات السياسية القائمة والقادمة جراء انفصال الجنوب خطيرة حقاً. لكن أخطر منها ما وصلت إليه أحوال الناس المعيشية والاجتماعية. هذه الحالة هي التي تعطي الثورات الشعبية شعاراتها وتجعل عامة الشعب يندفعون وراء الشباب المستنيرين فيصنعوا أعظم أحداث التاريخ. ومن يظن أنه محصن من عدوى الثورة فهو يعرض الوطن لأخطار أكبر مما تقدم وسبق.