لا يمكن أن ننظر بإمعان إلى حال الأمة العربية في هذه الآونة من دون البحث عن الجذور الثقافية التي مهدت لعملية التغيير الواسعة والعميقة التي تجري حالياً، متمثلة في ثورات شعبية متلاحقة، تتشابه في البدايات وتسعى إلى أن تتطابق في النهايات، لتفوز بالحكم الرشيد، والتوزيع العادل للثروات، والانتصار لكرامة الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج. وإذا كان العالم العربي قد بحث في الغالب الأعم طيلة الأعوام السابقة عن ثقافة النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي أو ضد "قابلية الاستغزاء" فإنه بات مشغولاً مع حلول نهاية العام المنصرم بالأفكار والأساليب التي تساعد على تقويض الأنظمة المستبدة، جنباً إلى جنب مع التصدي لمحاولات النيل من الأمن القومي أو مساعي الإلحاق والتبعية، والسعي الدائب إلى جعل النظام الإقليمي العربي بنية هشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، حتى يمكن التهامه كلقمة سائغة. وحين نكون مستهدفين باستراتيجيات دولية ذات طابع عدواني، ونرزح تحت أنظمة مستبدة، فليس أمامنا من خيار سوى تعزيز "ثقافة النضال الوطني" وترسيخها في النفوس والعقول، وتوسيعها لتبدأ من "الكلمة" مررواً بشتى ركائز وأشكال الممانعة والمنعة، في الاقتصاد وشؤون الجماعة والثقافة وإنتاج الأفكار، والوصول إلى الحكم الرشيد. وبقدر حرصنا على مقاومة العدو والتصدي له في ميدان القتال، يجب أن نحرص على امتلاك وسائل العزة والقوة، لأنها تحمي المقاومين وتغطي ظهورهم، خاصة إن طالت المعركة واتسع النزال، فلا مقاومة قوية من دون مجتمع يحتضنها، ويفهم مراميها، ويؤمن بأهدافها ومقاصدها، ويساعدها على الاستمرار والبقاء. ولا مقاومة بلا إمكانيات مادية، لشراء الغذاء والكساء والدواء. وهي ليست بلا أفكار عميقة وأحلام عريضة وإيمان دفين راسخ لا يتزعزع بالله والوطن والحق والعدل والخير والجمال. وحتى نصل إلى هذا علينا أن نعمل على جبهتين في آن واحد، بلا كلل ولا ملل، الأولى ضد العدو الخارجي، الذي يريد احتلال بلادنا ونهب ما تبقى لنا من ثروات طبيعية وتأجيج الفتن بين أبناء أوطاننا، من أجل تحقيق مصالحه. وإذا كان هذا طبع الدول الكبرى والإمبراطوريات في كل زمان ومكان، فمن الطبيعي لأي بلد مستهدف أن يقاوم بشتى الطرق، دفاعاً عن مصالحه أيضاً. أما الثانية فهي ضد القوى الداخلية التي تحول دون نهضة بلادنا، حين تمنع بالاستبداد والشرطة والعسكر ميلاد الديمقراطية، وتمنع بالفساد وسوء الإدارة مولد الرخاء، وتخدر عقول الناس، فيتقاعسون عن الانتصار للمصلحة العامة، وتكرس جهدها ليس لتحصيل الحرية والتنمية، إنما لتدمير الدولة، بما يحرث الأرض أمام أي غريب غاز أو محتل طامع. وهذه المزاوجة بين الجبهتين باتت ضرورة، فالانتصار في معركة الخارج لا يمكن أن يتحقق على الوجه الأكمل إلا بالنصر في معركة الداخل، والجماهير التي لا تستطيع أن تحقق مطالبها الداخلية، لا يمكن أن تشكل رقماً ذا بال في علاقات الدول، وفي السياسة الخارجية. وثقافة التغيير تقوم على عدة أسس يجب أن تكون حاضرة ومفهومة، فهي ثقافة نضالية وليست عدوانية، لا تنشر قيم الكراهية في المجتمع ولا تخاصمه أو ترميه بالخيانة، وهي ثقافة تفرق جيداً، ومن دون أي لبس أو غموض، بين "السلام" و"الاستسلام"، وهي ثقافة تعض بالنواجذ على الثوابت الوطنية، فلا تفريط فيها، ولا مقامرة بها، ولا مساومة عليها. وهي ثقافة تقوم على القاعدة الذهبية التي تقول "يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال"، فمهما ماد الناس أو مالوا، ومهما دب اليأس في نفوسهم وتخاذلوا، فإن المقاومين لا تخور عزائمهم، ولا ينفرط عقدهم، ولا تموت أحلامهم في تحقيق النصر المبين، مهما طال أمد المعركة، ومهما تعددت أشكالها. وهي كذلك ثقافة خلاقة متجددة، تستعصي على الموت والفناء مهما كان حجم الإغارة عليها، فتنتقل من جيل إلى جيل، وتسلم رايتها من يد إلى يد، وتحرص دوماً على أن تتسع رقعتها، ويتعزز وجودها، فتضرب في كل الأرض جذوراً عميقة قوية، لا يستطيع أعداء الداخل أو الخارج أن يخلعوها. وهي إن كمنت أو هدأت قليلاً في "استراحة محارب" فإنها تهب كالمارد حين تستشعر أن هناك من يتربص بنا، أو يرغب في العدوان علينا. ولا تأتي ثقافة التغيير بغتة كالزلازل، إنما تولد على مهل، كما ينبلج الصبح من رحم الليل. والناس لا ترى ولا تدرك إلا الذروة في فعل المقاومة، ويحسب المتعجلون والغافلون والمغرضون أنها إما عملية عشوائية، أو تهور لا يدرك العواقب ولا يتوخى الحذر، أو هبة عفوية، أو رغبة دفينة لدى فصيل من الناس في العنف، وربما الانتحار، بل يشكك هؤلاء في جدواها على المدى البعيد. لكن الراسخين في العلم والعمل يؤمنون بأن أي شخص أو مجموعة عليها أن تمر بمراحل عدة من التربية النفسية والسياسية والتدريب حتى تحمل صفة "المقاومة" وشرفها، أو حتى تكون مقاومة حقيقية، لديها قدرة على التصدي والصمود والاستمرار والبقاء والتجدد الخلاق في التفاعل مع الواقع المعيش، إما لتغييره إلى الأفضل، أو على الأقل إيقاف ولجم من يريد لهذا الواقع أن يصير أكثر قبحاً ومهانة وذلاً واستكانة. وتبدأ الرحلة إلى ثقافة التغيير بإدراك الفرد أو المجموعة للظروف التي تحيط بها، والإلمام بتفاصيلها، أو على الأقل معرفة الصورة الكلية العامة غير المنقوصة لها، وتحديد ماهية العدو، والوعي بأفعاله وخططه الآنية والمستقبلية. ثم تأتي بعدها مرحلة بناء موقف رافض لهذه الظروف، ساخط عليها، راغب في تغييرها. وهذا الرفض قد يكون عند البعض مجرد شحنة نفسية يتم التنفيس عنها إيجابيا في كلام غاضب أو تظاهرة أو سلبياً بالانسحاب واللامبالاة والقناعة بما يجري، لكنه عند من يسير في طريق اكتساب المقاومة يكون هذا الرفض لبنة قوية، تتراص فوقها المواقف والسلوكيات الأخرى، حتى تصل بصاحبها إلى استعداد تام للتضحية بالنفس، في سبيل الوطن أو القضية أو المبدأ.